طيلة اليومين الماضيين، برهن التونسي انه ظل وفيّا لعاداته الاستهلاكية اثناء المناسبات وذلك مهما كانت ظروفه المادية ومهما غلت المعيشة. ملاحظة تكشفها جولة صغيرة في الاسواق والفضاءات التجارية الكبرى والمتاجر المتنوعة. تزامن اليومان الاخيران مع بداية موسم التخفيضات ومع الاستعداد للمولد النبوي الشريف ومع عطلة الثلاثي الثاني. «ثلاثي» تزامن ليُخرج أغلب العائلات من ديارها ، رغم برودة الطقس ، ويدفعها للتحول في الآن نفسه نحو متاجر الاحذية والملابس ونحو محلات بيع مستلزمات المولد النبوي وأيضا نحو الفضاءات الترفيهية، فكانت الحركية متميزة امس وأول أمس واليوم الذي سبقهما ومن المنتظر ان تكون كذلك اليوم وغدا. «تزامن الصولد والمولد مع بداية الشهر ، وكانت الجيوب ملآنة لذلك خرج الجميع للتسوق في الآن نفسه ووجدنا انفسنا في مواجهة نفقات المولد واغراءات الصولد « يقول شاكر سويسي (أستاذ واب لطفلين) وهو يتجول مع عائلته بين متاجر الفضاء التجاري «جيان». وفيّ كلام شاكر يفسر في الواقع هذه الحركية التي تشهدها المحلات والفضاءات التجارية والاسواق منذ 3 أيام. فتزامن بعض المواسم والمناسبات الاستهلاكية مع بداية الشهر عادة ما تكون له انعكاسات على مستوى ارتفاع الاستهلاك لدى التونسيين، وفق ما تثبته التجربة. ففي هذه الاثناء يكون الجميع قد حصلوا على أجورهم ولا يجدون أية صعوبة في الانفاق بسخاء دون تفكير في نفقات بقية الشهر . وهذا ما تكشفه الحركية التي كانت عليها امس الفضاءات التجارية الكبرى والتي تجمع بين السلع الاستهلاكية العادية وبين محلات الملابس والاحذية، بما يؤكد ان التونسي يظل وفيا ل«جنون» الاستهلاك في المناسبات الكبرى مهما تعددت هذه المناسبات ومهما تزامنت مع بعضها البعض . فقد بلغ الاكتظاظ حده الاقصى امس بالفضاءات التجارية «جيان» و«كارفور ماركت» و«مونوبري» و«المغازة العامة» خاصة بالأجنحة المخصصة لبيع مستلزمات عصيدة الزقوقو. على واجهتين داخل أحد متاجر بيع ملابس الاطفال بمركز تجاري شمال العاصمة، كانت الحركة مساء لا توصف من فرط الاكتظاظ ، حيث اصطحب كثيرون اطفالهم الى ذلك المحل الذي أعلن منذ ايام على واجهاته البلورية ان نسبة التخفيض لديه ستكون في حدود 50 بالمائة. من بين الحرفاء كهل كان مرفوقا بزوجته وابنته، وفيما كانت الزوجة والبنت منغمستين داخل المحل لاختيار الملابس، فضل محمد علي الوقوف خارج المحaل وهو المثقل باكياس بلاستيكية بدا واضحا انها تحتوي «قضية المولد». يبتسم محمد علي عند الاجابة عن سؤال حول شعوره في ذلك الوقت وهو «يكافح» من اجل التوفيق بين نفقات المولد ومصروف «الصولد»، فيقول «وجدنا انفسنا امام الامر الواقع، الصولد يُغري من جهة، و عصيدة الزقوقو لا مفر منها من جهة أخرى ..وطبعا اقترن الاثنان بالشهرية فلا مفر بالتالي من الانصياع لطلبات الزوجة والابناء لانه لا يمكن التعلل كما في سائر الايام بافتقار الاموال». لا تهم الاسعار بشهادة كل من تحدث ل«الشروق»، فإن اسعار الملابس والاحذية شهدت ارتفاعا ملحوظا في الاشهر الاخيرة . ورغم ان نسبة الصولد بلغت في بعض الاحيان 50 بالمائة الا ان ذلك لم ينفع لانخفاض الاسعار، فبدت مرتفعة في نظر المستهلك. واكثر من ذلك ما زال اصحاب بعض المحلات يأتون ممارسات غير مقبولة بمناسبة الصولد وذلك بالترفيع في الاسعار الاصلية لتبقى مرتفعة حتى بعد طرح نسبة التخفيض منها إضافة إلى ممارسات اخرى من قبيل الغش في جودة السلع. ورغم ذلك بدا كثيرون غير مبالين بذلك وحضر الازدحام والتدافع في المحلات للفوز بملابس واحذية الصولد..» كما ترون التونسي لا يبالي بالاسعار، المهم بالنسبة اليه انه يسجل حضوره في الصولد ويشتري ولو مجرد قطعة واحدة من الملابس او الاحذية» تقول مها (موظفة) وهي تتابع من الخارج الحركية الكثيفة داخل محل لبيع ملابس النساء، مضيفة ان مثل هذا التدافع يزيد في تشجيع اصحاب المحلات على التمادي في الغش وفي الترفيع في الاسعار ما دام الناس غير مبالين ويشترون رغم ارتفاع الاسعار. الملاحظة نفسها ساقها أكرم (سائق تاكسي ومتزوج وأب لطفل) وذلك بالقول ان «اسعار مستلزمات عصيدة الزقوقو كانت هذه السنة لا تُطاق وغير معقولة بالمرة. لكن رغم ذلك ترى التدافع الغريب والمحير امام المحلات والناس غير مباليين بالاسعار..حتى لو كانت اسعار الزقوقو 30 أو 40 دينارا كن متاكدا انه لن يرفض تونسي واحد شراءه مهما كانت ظروفه الاجتماعية..». تذمر ..ولهفة بقدر ما يظل التونسي وفيا لجنون الاستهلاك في المناسبات الكبرى بقدر ما يظل وفيا ايضا لعادة أخرى لا تفارقه في هذه المناسبات وهي التذمر والتشكي. «التونسي يتذمر كثيرا..وينفق كثيرا..لكن من ياتي بالاموال» يتساءل شاكر ضاحكا لكن بشيء من الاستغراب. مضيفا انه «في الايام العادية لا تكاد تسمع سوى التذمرات من غلاء المعيشة وذلك حيثما مررت . لكن عندما تكون مناسبة ما على الابواب، لا ترى سوى التدافع واللهفة على الشراء، ويصبح الحديث آنذاك عن ارتفاع الاسعار امرا غير مهم كثيرا، على غرار ما نراه هذه الايام بمناسبة الاستعداد للمولد او بمناسبة الصولد... انه لأمر غريب وأكاد أجزم انه لا يوجد الا في تونس». المراقبة بمناسبة انطلاق الصولد وحلول المولد النبوي، عمد عدد من التجار الى الترفيع في الاسعار دون مبرر، وهو ما لاحظه الجميع بلا استثناء، لكن وجدوا انفسهم مضطرين إلى الشراء استجابة لرغبات العائلة والابناء، كما يقول اكرم . و يقول محدثنا انه في ظل هذا الضغط الذي تعيشه العائلات التونسية كان من المفروض ان يراعي التجار الظرف ولا يستغلوا حاجة البعض إلى الشراء ليحققوا أرباحا غير معقولة. ففي مثل هذا الظرف الاستثنائي الذي تعيشه بلادنا من المفروض ان نراعي ظروف بعضنا البعض لا ان نستغل حالة ضعف المراقبة الاقتصادية لالحاق مضرة بالغير. كلام اكرم يردده كثيرون في السر والعلانية، لكن لا يمكنهم أكثر من ذلك مادامت أجهزة المراقبة الاقتصادية هشة وغير قادرة على ممارسة عملها بالوجه المطلوب. «لو كانت المراقبة موجودة لما ارتفعت اسعار مستلزمات عصيدة الزقوقو الى ذلك الحد، ولما فعل تجار الملابس والاحذية ما فعلوه للترفيع اقصى ما يمكن في الاسعار». تقول السيدة هادية وهي تحمل بيد مستلزمات الزقوقو وتمسك باليد الاخرى ابنتها الصغرى التي اصرت بمناسبة العطلة المدرسية على شراء لعبة قالت ان سعرها تضاعف بالتمام والكمال مقارنة بالسنة الماضية (ارتفع من 6 إلى 12 د)، ولم تجد بدا من الاستجابة لها بسبب الحاحها . المقاطعة ..لكن في عدة دول من العالم، يلجأ الناس لمقاطعة شراء اي منتوج كلما لاحظوا ان سعره ارتفع بشكل غير عادي فيضطر التجار بذلك إلى التخفيض في الاسعار حتى لا تلحق بهم خسارة فادحة. فهل هذه الطريقة ممكنة اليوم في تونس؟ «لا ومستحيل» يقول عبد الستار مولهي (موظف) وهو يلاحظ باستغراب اسعار الفواكه الجافة واسعار الزقوقو داخل فضاء تجاري ويعاين من وراء ذلك حالة التدافع والاكتظاظ «هل تنتظر من هؤلاء المقاطعة ..شخصيا اعترف اني غير قادر على اتباع هذا السلوك الحضاري الذي نراه في الدول المتقدمة..لو يدعو احد الى المقاطعة لن يلقى سوى التجاهل وربما السب والشتم ويعتبرونه مجنونا. يلزمنا تطور كبير في العقلية ومنظمة قوية للدفاع عن المستهلك لتنظم مثل هذه الامور..