السوق الموازية للمحروقات بالقيروان تفاقمت وأصبحت محل تذمر من قبل أصحاب محطات البنزين. وفي المقابل فإن تجار النقاط الموازية يقولون إن تهريب البنزين هو مورد رزقهم الوحيد الذي يواجهون في سبيل الحصول عليه مخاطر عديدة.
هي معضلة حقيقية ليس لأنها تتعلق بقطاع المحروقات الحساس الذي يعد عبءا ثقيلا على الدولة التي تدعمه. ولا يتعلق بمسألة الأسعار التي يراها المواطن مرتفعة فقط. ولا يتعلق بالتجارة الموازية وإنما يتعلق بطريقة دخول هذه المحروقات الى تونس وكيفية خروجها من منبعها الأصلي والأطراف المتدخلة في العملية. وهي ليست مجرد تجارة وعرض وطلب وانما مسألة معيشة ومورد رزق ومسألة حياة او موت وأشياء أخرى. وهذا ما بينه التحقيق الذي أجريته مع طرفي المعضلة في شكل حوار غير مباشر بين أصحاب (وكلاء) محطات البنزين وتجار البنزين و«مهربيه» والمخاطرين بجلبه...ولكل طرف مطالبه ومتطلباته. فقد وجهت الغرفة الجهوية لوكلاء محطات بيع الوقود بالقيروان مراسلة الى الجهات المعنية والسلط الجهوية تعبر فيها عن تشكيات الوكلاء من السوق الموازية لبيع المحروقات بولاية القيروان البالغ عددهم 46 محطة. وقالوا ان هذه الأسواق أدت الى ما وصوفوه بشلل بيوعات جل المحطات وعجزها عن الايفاء بالتزاماتهم المالية نحو تغطية المصاريف القارة من اداءات وضرائب وأجور العمال ومعين الكراء لبعضهم والفواتير وغيرها. وعبروا عن حيرتهم ازاء «تفاقم» الظاهرة الأمر الذي قد يضطر الى غلق المؤسسات (المحطات) وطرد العملة. وقد طالبوا السلط الجهوية بالتدخل العاجل للحد من التجارة الموازية.
متضررون
«الشروق» اتصلت بوكيل احدى محطات بالقيروان فأكد ان نقاط بيع البنزين العشوائية تضر بأعمالهم و«تضر بهم بشكل كبير». وتسببت في تراجع مرابيحهم. مشيرا ان مشروع محطة بنزين يتطلب رأسمال بين 300 و400 ألف دينار. وقال انها مؤسسة كاملة تشغل العمال وتدفع الضرائب. بل انه أشار الى ان السوق الموازية تمس من الاقتصاد التونسي. واعتبرها بمثابة المتاجرة بالعملة او بالذهب خارج الاطار القانوني. بسبب بيعها بأسعار اقل من السعر المعتمد على مستوى وطني. كما تحدث عن المخاطر الصحية والبيئية لأسواق المحروقات الموازية وهم ينتشرون في كل مكان ويعرضون حاويات البنزين بشكل مخل بأسباب الوقاية. مطالبا البلديات والحماية المدنية والوالي والديوانة والمراقبة الاقتصادية بالتدخل. كما بين ان المواطن متضرر من بعض نقاط البيع الموازية بسبب غياب الجودة والمراقبة في حين تتعرض المحطة الى التتبع في صورة غش المواطن. ولم يخف ان بعض أصحاب المحطات أنهم يبيعون البنزين المهرب سواء من خلال اقتنائه مباشرة من المهربين او بشرائه من الديوانة عند حجز الكميات. وحول تبريرات تجار السوق الموازية من انهم معطلون ولا يملكون مورد رزق، قال الاخير «لا يهمني ان كان عاطلا. هذا شأن يخصه هو ويخص الدولة التي لم تشغله ويرى انه ليس عذرا لتجاوز القانون». وتحدث عن حلول وقتية يمكن للسلط الجهوية والحكومة ان تتدخل من خلال التضييق على المنتصبين والقيام بحملة وإغلاق الحدود.
المجازفون بين خطي الخطر والفقر
غير ان التجار و«المهربين» للبنزين المعنيين بالشكوى، لهم تبريرات أخرى وتوضيحات قد تفاجأ وكلاء محطات البنزين والدولة التي لم توفر لهم الشغل سواء قبل الثورة او بعدها. وقد اعتبر نشاط السوق الموازية مسموحا رغم التقييد والتقنين. حيث كان يسمح للشبان بان يلقوا بأنفسهم في التهلكة ومخاطر الطريق الى حد التعرض الى الرصاص والى تسبب «شاحنات الموت» في حوادث مرورية قاتلة تودي بحياة سواقها ومستعملي الطريق...وهذا من اجل ان لا تتكبد الدولة عناء معالجة الأوضاع الاجتماعية الصعبة للمعطلين والمهمشين. والحقيقة فان هؤلاء المجازفين يعرضون انفسهم للخطر ليحاربوا الفقر. وقالوا انهم يخيرون الموت وهم يشتغلون على ان يموتوا جوعا وتموت أسرهم التي يعيلونها. الشاب موسى عياشي كان امام مستودعه في انتظار حرفائه. مستودع عادي يحتوي على عشرات الصفائح البلاستيكية التي يبدو انها مليئة بالمحروقات (بنزين ومازوط). تتوقف سيارة أحد المواطنين فيشحن له صفيحة او اثنتين مستخدما مصفاة صغير لتنقية البنزين من الأتربة الراسبة اسفل الصفيحة ثم يستلم المبلغ...ثم يمر الى الحريف الموالي. ملابسه تحمل آثار البنزين انه يشتغل. وقال موسى ان بيع البنزين هو مورد رزقه الوحيد. وقال ان المستودع يوفر قوت عديد الأسر. وقال الناصر (احد شركائه) ان له 3 أبناء وانه ليس لديه مورد رزق سوى هذا الشغل الذي يوفر له قوت أولاده ويدفع منه معين الكراء. وقال ان هذا العمل يمكنه من الحصول على دخل شهري يقدر ب500 دينار. ولا توفرها له الدولة. مشيرا الى ان جلب كميات البنزين ليس بالأمر السهل كما يتوقع. وان عملهم محفوف بالمخاطر. الشاب محمد الهادي الشامخي كان يستمع الى حوارنا قبل ان يتدخل قائلا «نحن مستعدون لتحمل تلك المخاطر في سبيل توفير القوت» وقال «ان هذا العمل افضل من البطالة ومن الانحراف والسرقة». يتعرض مهربو البنزين الى المطاردة الأمنية ويتعرضون الى اطلاق النار هكذا يؤكد الشبان الذين تجمعوا حولي في حذر في البداية ثم صرحوا بعديد الحقائق.
زعماء التهريب!
وعن كيفية تمكنهم من إدخال البنزين عبر الحدود التونسية وان كانت الحدود مغلقة ام مفتوحة، بين احدهم ان الحدود مغلقة وان هناك مراقبة على طول الحدود ومع ذلك تدخل شاحنات البنزين ويصل البنزين الى القيروان ويتجاوزها الى عديد الجهات. والعامل الأول حسب توضيحات الشبان المتحفزين، هو ان تهريب البنزين هو مبادرة من مواطنين بإحدى الدول الشقيقة. وقال ان هؤلاء يقومون بتهريب البنزين على متن الشاحنات وعلى ظهور الحمير عبر المرتفعات ويتحدون حراس الحدود من اجل إيصال تلك الكميات. وبين ان العملية هي حياة او موت بالنسبة اليهم. ثم يأتي دور الشاحنات التونسية الصديقة التي تجازف بالوصول الى المناطق الحدودية عبر المسالك الوعرة وغير المهيأة. «هناك رشوة» عبارة أكدها الشبان الذين تحدثت اليهم. وأمام استغرابنا من تواصل الرشوة بعد الثورة، قال احد «المجازفين» انها متفشية اكثر من قبل وقالوا انهم مستعدون «لإسقاط» احدهم من خلال ورقة نقدية من فئة 50 دينار ينسخونها او يتركون رقمها عندنا ويسلمونها الى الطرف المقابل ليتبين صدقهم وهذا يمكن ان يتحقق منه القضاء وليس من مشمولاتنا. ورغم اننا ننقل مزاعمهم بحذر لتجنب الاتهام فإنهم يصرون على ان للأعوان قانونهم الخاص ويفرضون هم قيمة الرشوة. وقال ان هناك عديد الأطراف متورطة في العملية مكررا ان الحدود مغلقة ومع ذلك يتم إدخال البنزين المهرب. وتساءل كيف اذن يتم إدخاله. الأمر الخطير الثاني هو انهم يؤكدون ان وكلاء محطات البنزين يشترون البنزين الذي يجلبه «المجازفون». وقال الشاب موسى الذي واصل حديثه ان أصحاب محطات البنزين يشترون منهم ما يجلبونه وهم المستفيد الأكبر من العملية. حيث يشترون الصفيحة ذات 20 لتر(بيدون) ب14 دينار بسعر الجملة ويبيعونها ب27 دينار للمستهلك واقسم انها نفس البضاعة التي يبيعونها هم في السوق الموازية.
تنظيم وتقنين؟
عندما نستمع الى قول «المجازفين» يتحدثون عن جودة المحروقات التي يجلبونها نستغرب، قبل ان يتدخل احد الحرفاء ويقول ان البنزين المهرب افضل جودة واقل سعرا. بل انه دافع على الفكرة عندما قلنا له انه يتسبب في ضرر للاقتصاد وان الدولة تدعم البنزين الذي يباع في المحطات، وشدد ان البنزين المهرب يخفف العبء على الدولة وعلى المجموعة الوطنية. موضحا ان اسعار السوق الموازية افضل بالنسبة للمواطن. وقال انه منذ أن جرب اقتناء البنزين المهرب لا يشتري سواه. وهنا قاطعنا احد المجازفين وتساءل «كيف تقولون ان عملنا يضر بالاقتصاد والحال انه يخدم المواطن وان البنزين مطلوب من قبل المواطن ويشتريه عن طيب خاطر. وكما اكدنا فنحن لا ندافع عن احد ولا نبرر ما يقوم به الشبان، وانما ننقل الواقع كما شاهدناه وسمعناه. وقبل إنهاء الحوار والتقاط الصور، طالب المجازفون بان يتم تنظيم القطاع واقترحوا ان يتم إسناد رخص لهم ليعملوا بشكل قانوني ويحموا انفسهم من المخاطر. بل ان احدهم اكد انه اذا تم تنظيم المسألة لتصبح قانونية فانهم مستعدون لدفع الضرائب على المداخيل. والمؤكد ان المسألة معقدة اشد التعقيد ويعتبرها المجازفون مسألة حياة او موت شأنهم شأن أشقائهم في الدولة المجاورة التي يتزودون منها حيث أكد المجازفون ان هناك تبادل تجاري بين الطرفين. ولم يفوت احد الشبان الفرصة لتوضيح نقطة مهمة وهي ان مئات الشبان يشترون الشاحنات (خفيفة) بنظام الإيجار المالي وهم مطالبون شهريا بدفع أقساط خيالية وقال «من اين سيدفع هؤلاء أقساط شاحنة ب 50 الف دينار» انه اما يجازف او يموت هو وأسرته جوعا او يجز به في السجون». فكيف ستتدخل الجهات المعنية ان قررت ذلك، وكيف ستوفق في تحقيق المعادلة بين الطرفين «حتى لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي».