وأنا أتخطى هذا المبنى العظيم كنت أتمنى أن خلف كل باب هناك رجلا يعي جيدا مفاهيم العدل التي حُرمنا منها نحن القادمين من معاقل الدكتاتورية والقمع. ها أنا في بهو محكمة العدل الدولية بلاهاي بل في معقل كلمة الحق. الأسئلة تستفز نفسها ونقاط الاستفهام أصبحت تتداخل وتتضارب وكل واحد منها يريد أن يكون الأول في هذا الحوار مع المتحدث الرسمي باسم محكمة العدل الدولية السيد فادي العبد الله... صحفية عربية تحاور مسؤولا عدليا دوليا من أصل عربي، المسألة تتجاوز الهوية فالمكان على ما يبدو يتّسع لكل الهويات. «الشروق»: آخر عهد لتونس بمحكمة العدل الدولية يعود إلى سنوات السبعين من القرن الماضي لمّا استنجدت بلادنا بمحكمتكم من أجل إعادة رسم الحدود مع ليبيا فيما يتعلق بقضية الجرف القاري ومنذ ذلك التاريخ لم نسمع بنشاط معيّن لهذه المؤسسة العدلية الدولية في تونس مع أن الأوضاع كانت تتطلب تدخلا منكم لوضع حد لعديد الانتهاكات التي مُورست ضد شعبنا فأين محكمة العدل الدولية من هذا؟ السيد فادي العبدالله: بادئ ذي بدء لا بدّ من تحية هذا الشعب العظيم على ما أنجزه لفائدة تونس والتداعيات الإيجابية لهذا المنجز التاريخي على المنطقة العربية بأسرها وعلى حركة التاريخ بشكل عام لكن لا بد من التذكير بأن تونس لم توقع على مجمل الاتفاقيات المتعلقة بالشأن العدلي الدولي على غرار محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية (CPI et IPI) إلا في شهر جوان الماضي وهي خطوة تحسب لهذا البلد العظيم الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الديمقراطيات الحديثة وتشجيعا على الانخراط في المجهود الدولي من أجل إقامة العدل في كل أرجاء المعمورة ومن ثمة إعطاء الإمكانية للهياكل العدلية الدولية لملاحقة كل المسؤولين السياسيين مهما كانت انتماءاتهم العرقية أو اللونية أو الدينية أو القومية كان لي عظيم الشرف في زيارة تونس بمناسبة أول انتخابات حرة وديمقراطية تقوم في الوطن العربي وكانت سعادتي وأنا أضع قدمي على أرضكم الطاهرة مهد الربيع العربي. فيما يتعلق الآن بمسألة محكمة العدل الدولية في الشؤون الداخلية في تونس تعلمين سيدتي أن هناك إجراءات لا بد من احترامها حتى تتمكن محكمتنا من اتخاذ قرار بشأن دولة ما وإلى حد الآن لم تصلنا أي دعوى من الحكومة التونسية أو من يمثلها لإثارة قضية ضد مسؤوليها وحكامها السابقين وعليه فإن محكمة العدل الدولة تنظر باحترام كبير للقضاء التونسي الذي ربما يصل إلى نتائج بإمكانها إعادة الحقوق المادية والمعنوية لكافة الشعب التونسي. «الشروق» لكني سيدي أسألك عن هذا الصمت الذي رافق فترة حكم بن علي وبقية الحكام العرب لشعوبهم بالقوة أين كانت مهمتكم من هذا؟ فادي العبد الله: في قراءة أولية لدور محكمة العدل الدولية يتبين للمواطن العربي أن هناك تقصيرا في دور هذه المؤسسة تجاه شعوب المنطقة لكننا قضاة وحكام تحقيق ومستشارين كنا على مدى سنوات ننبه المجتمع الدولي تجاه ما يحدث في البلدان العربية من تجاوزات وانتهاكات لحقوق الإنسان وفيما يتعلق بتونس تحديدا فإن محكمة العدل الدولية تُدين كل الخروقات والجرائم المرتكبة في عهد الرئيس السابق وهي على استعداد تام لتلقي أية دعوى ضد أي مسؤول تونسي متى ثبت تورطه في جرائم ضد الإنسانية ويبقى أملنا كبير في القضاء التونسي في استجلاء الأمور وتبيان الحقيقة على المستوى القانوني البحت واتخاذ القرار القضائي الممكن ضد كل من ثبت تورطه في تلك الجرائم. «الشروق»: هل قدمت الحكومة التونسية دعوى ضد الرئيس السابق لمحكمتكم الموقرة؟ السيد فادي العبد الله: لم نتلق أي دعوى في الغرض وأعتقد أن الحكومة التونسية ما قبل الانتخابات وبعدها أرادت تحييد القضاء التونسي ومن ثمة التعويل عليه في محاسبة كل المسؤولين السابقين وهو في المنطوق السيادي لكل دولة حق مشروع لكن لا بد من الإشارة وتوضيح بعض المسائل التقنية في مستوىالتدخل العدلي الدولي وهو أن الجمهورية التونسية تسعى إلى جلب الرئيس السابق من أجل محاكمته في تونس وليس الاستعانة بمحكمة العدل الدولية من أجل محاكمته وهما مسألتان مختلفتان فالجلب قانونيا هو مسألة اجرائية في حين أن المحاكمة هي مسألة ترتيبية ترتقي الى مستوى التعهد بالقضية واستصدار دعوة عمومية دولية في شأنها بمعنى أن هناك قاض دولي سيكلّف مجموعة من قضاة التحقيق للاستماع والملاحقة والوقوف على الأدلّة والقرائن لاثبات التهمة ومن ثمّة تحرير نصوص للادعاء واستدعاء الشهود قبل أن تتمّ الاحالة ومباشرة المحاكمة والى حدّ الآن لا في تونس فقط بل حتى في مصر واليمن الأمور خرجت عن نطاق محكمة العدل الدولية. «الشروق»: كنتم أشرتم بعد حديث وزير العدل الليبي على حميدة عاشور الى أن محكمة العدل الدولية لم تتخذ قرارات فيما يتعلّق بالدعوى المرفوعة من عائشة القذافي أمام محكمة العدل الدولية فهل يُفهم من هذا الكلام أن محكمتكم الموقّرة لازالت تنظر بعين الريبة الى الحكام الجدد في الدول التي قامت فيها الثورات العربية؟ السيد فادي العبد ا&: نحن نحيّ الشعوب العربية التّواقة الى الحرية ومن ثمّة نُحيّ كل شعوب العالم الأخرى لكن لا يعني هذا أننا نُبيح الانتقام والتشفي،. إن مسألة العدالة الدولية هي مسألة انسانية ورغبة العدل الدولية أن تكون هناك محاكمات عادلة حتى لأولئك الذين اخترقوا وخرقوا حرمة الانسان والسيدة عائشة القذافي كانت قد تقدّمت بالتماس لمحكمة العدل الدولية للنظر في وضعية أخيها سيف الاسلام القذافي المعتقل منذ شهر ديسمبر الماضي في ليبيا من طرف مجموعات من الثوار الليبيين وكذلك على خلفية ما تعرّض له والدها من تعذيب لحظة القبض عليه في شهر أكتوبر في مدينة سرت، والسيدة عائشة القذافي هي محامية كان لها نشاط كبير قبل سقوط نظام والدها أمام محكمة العدل الدولة لذلك كانت دعوتها مما يُسمّى قانونا لدى المحكمة من قبيل: (Amicuscurise) وهي عبارة «لاتينية» من صميم الفلسفة العدلية الكونية ومفادها التابع للمدلول القضائي في دلالية على وظيفة المشرّع له بمعنى صديق الفاهم للقانون لما يعتد أي يحتكم الى القاضي وهكذا رأت السيدة عائشة القذافي وبوّبت نفسها صديقة للقضاة الجالسين في محكمة العدل الدولية وبقطع النظر عن تلك الدعوى إن قضاة ومحققي محكمة العدل الدولية قد أرسلوا في شهر جانفي الماضي قاضيا للوقوف على ظروف اعتقال سيف الاسلام القذافي وخاصة فيما يتعلّق بوضعه الصحي نتيجة مرض جلديّ أصاب يده اليُمنى ومع ما تأكّد من نتائج ايجابية بعد تلك الزيارة فإن محكمة العدل الدولية لا زالت لا تعتقد أن هناك ظروفا ممكنة لمحاكمة سيف الاسلام في ليبيا وكلام وزير العدل الليبي لم يتم التباحث فيه مع أي طرف سواء في المجلس الانتقالي الليبي أو في الحكومة الليبية. «الشروق»: كيف تكيّفون قانونيا تلك المشاهد المفزعة التي شاهدها العالم لحظة اعتقال العقيد معمّر القذافي؟ السيد فادي العبد ا&: هي لحظة مقرفة ومقزّزة وأعتقد أن تلك التجاوزات هي من قبيل ردّة الفعل الآنية تجاه عشرات السنين من الظلم والقمع لكن كان بالامكان تفاديها لأجل محاكمة كل الذين كنوا سببا في مآسي الشعوب العربية وأعتقد أنه لو توفّرت محاكمة لبن علي أو القذافي أو غيرهما لكان ذلك كافيا لاعادة الحق لأصحابه. «الشروق»: في التحولات التي يشهدها الآن الوطن العربي كيف يتمّ تفعيل دور محكمة العدل الدولية حتى يكون لها دور في مستقبل القضاء العربي؟ السيد فادي العبد ا&: إنّ التجربة العدلية ودعيني لا أقول القضائية كما قلت، سيّدتي، هي من صميم وظيفة العدل الدولية فالقضاء والعدل مسألتان مختلفتان إذ أن العدل مسألة انسانية فيما أن القضاء هو مسألة فردية فالحكم بالعدل هو من باب إقامة المساواة وبالتالي التأسيس الى حكم ديمقراطي على أن القضاء يقتضي إقامة الحجّة على من خالفها ومن ثمّة يبقى هذا الحكم في التقييم القانوني فرداني لاتصاله بما يتعلق بالافراد والجماعات فيما بينهم. عودٌ على بدء محكمة العدل الدولية تناشد كل مؤسسات القضاء في الوطن العربي للاتصال بها ولتحويل كل جملة قضائية محليّة الى مفاهيم قانونية دولية لاتصال المسألة الانسانية المحلية بالمسألة الانسانية الكونية والحُلم هو الارتقاء بالمؤسسة القضائية العربية الى مستوى تحقق حقوق الانسان في ما تمليه المعاهدات الدولية حتى لا يقتضي أيّ أمر من أمور الدنيا في الوطن العربي تدخّلا عسكريا لإحالة هذا النظام أو ذلك من أجل تأكيد حقوق الانسان في الوطن العربي.