بات من شبه المؤكّد أنّ الفراغ الّذي أحدثه سقوط النظام السياسي السابق كان فراغا قاتلا ويُوشك أن يكون مدمّرا، ذلك أنّ الجاذبيّة نحو «السلطة» ما تزال تغزو العقول وتؤثّث مختلف الأجندات الحزبيّة والسياسيّة وتنظيرات بعض النخب وكانّ الانتقال الديمقراطي لا يسير في طريقه الصحيح أو هو يحتاج إلى إعادة صياغة وتعديل جديد ، أو أنّ جاذبيّة السلطة هي أثمن من الجاذبيّة نحو الوطن. لقد انفتحت «شاهية السلطة» أمام أكثر من طيف وأكثر من جهة وأكثر من اسم وأكثر من «لوبي» مباشرة إثر رحيل الرئيس الأسبق الّذي مثّل امتدادا للنظام السياسي الّذي حكم تونس منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي في 20 مارس 1956. معركة مفتوحة حول «السلطة» اليوم يبدو للعيان أنّ «معركة السلطة» ما تزال قائمة بين مختلف الفاعلين السياسيين وبدعم وتحريك و«تنشيط» من العديد من قوى الضغط واللوبيات السياسيّة والاقتصادية والمالية. برغم الحديث منذ أواسط العقد المنصرم عن ضرورة الانتقال الديمقراطي في تونس من داخل منظومة الحكم ومن خارجها فإنّ أحدا لم يكن يمتلك «السيناريو الأمثل» لتكريس ذلك الانتقال بصورة هادئة ورصينة تضمن استمراريّة عطاء مختلف أجهزة الدولة وانسياب نسق الحياة الاقتصاديّة والاجتماعية دون انفلاتات أو صدامات عنيفة.كانت السلطة القائمة زمن الرئيس بن علي ، وقبله زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ، «خجولة» في الإقدام على خطوات عمليّة وفعليّة لتنفيذ أجندة إصلاحيّة حقيقيّة تضمنُ الانتقال السلمي للسلطة وتحقيق الانتقال الديمقراطي بأخفّ الأضرار ، وكانت محاولات الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في المرور إلى «إصلاح ديمقراطي حقيقي» متأخّرة إذ كان من الواضح وجود «لوبي تسلطي ودكتاتوري» كان رافضا لأيّ تعديل في نمط الحكم ورافضا كذلك التخلّي عن بعض امتيازاته ومزاياه للطرف المقابل أي المعارضة أو القوى الإصلاحيّة داخلهُ. حدث ما حدث نهاية العام 2010 وبداية العام 2011 ، ووجدت البلاد نفسها منفتحة على أكثر من سيناريو وكان البعض منها في غاية الخطورة على كيان الدولة نفسها ، وعلى الرغم ممّا سجّلته مختلف الأجهزة وخاصة منها الأمنيّة والعسكريّة والأغلبيّة الساحقة من الهياكل الإداريّة من روح في التعاطي الإيجابي مع ضرورات الانتقال إلى أفق ديمقراطي تعددي مدني يقطع مع هيمنة الحزب الحاكم وتغوّل «الدولة» أمام المجتمع المدني والسياسي ، على الرغم من ذلك وعلى الرغم من انجاز انتخابات تأسيسيّة ما تزال الساحة السياسيّة في تونس تكشّف عن صراع خفي عن «السلطة». شرعيّة وتشكيكات على الرغم من «انتصاب» سلطة لها الشرعيّة الشعبيّة والديمقراطيّة لم يهنأ بال جزء كبير من النخب والأحزاب والقوى السياسيّة و«بارونات المال والأعمال» عن تصيّد الفرص وافتعال الأزمات وتحريك الشارع وإشعال الفتن من أجل إعادة طرح مسألة أحقية «الترويكا» بالحكم ومدى جدارتها بإدارة الشأن العام ، بمعنى سعيها من أجل إعادة خلط الأوراق من جديد والعودة إلى مربّع 15 جانفي 2011 حيث الفراغ على مستوى رأس السلطة السياسيّة في البلاد. وقد بلغ وهج «الجاذبيّة نحو السلطة» والصراع حولها مؤخّرا درجة بالغة الخطورة بتبادل اتهامات خطيرة (المؤامرة) ورفع شعارات لإسقاط النظام السياسي الجديد الّذي تشكّل في أعقاب انتخابات 23 أكتوبر 2011 ومن ثمّ دفع الانتقال الديمقراطي على أفق جديد. ومن المؤكّد أنّ محاذير الفشل في تكريس تجربة رائدة في الانتقال الديمقراطي ما تزال قائمة مثلما أشارت إلى ذلك العديد من الشخصيات الوطنيّة والمحللين السياسيين المتابعين للشأن السياسي التونسي ، وكانت الإشارات التي ألقاها يوم الأحد الفارط السيّد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي والأمين العام لحزب التكتّل أحد أطراف «ترويكا الحكم الحالية» تذهبُ إلى التأكيد على وجود حقيقي لمثل تلك المحاذير ، إذ لا يُمكن الجزم الآن بأنّ الثورة التونسيّة قد تخطّت فعلا الصعوبات وهي تتّجه رأسا لإنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي على حدّ عبارة السيّد بن جعفر على قناة نسمة، بما يعني أنّ إمكانية الفشل تبقى واردة وأنّ طريق النجاح ما يزال ملبّدا بالكثير من الإرهاصات والتخمينات بل والشكوك. على الرغم من مرور 56 سنة على إعلان الاستقلال تقف تونس اليوم على أبواب مرحلة في غاية الدقّة ، مرحلة تاريخيّة حاسمة عنوانها ما يزال يلفّه الغموض والضبابيّة من حيث القدرة على تحقيق الديمقراطيّة والتداول السلمي على السلطة والإيمان بصدقيّة التوجّه إلى صناديق الاقتراع واحترام إرادة الشعب واختياراته. إنّ الرهان الديمقراطي الّذي ضحّت به الأجيال الأولى للاستقلال لفائدة إنجاح المسيرة التنمويّة والاجتماعيّة والثقافيّة والصحيّة وهي حال جلّ التجارب التي عرفتها البلدان العربيّة في مرحلة ما بعد الاستقلال على حدّ عبارة الباحث التونسي الدكتور الحبيب الجنحاني إنّ ذلك الرهان يبقى اليوم عالقا وسط تجاذبات وتشابكات البعض منها في غاية الخطورة. هدم وتأسيس ومخاطر يحتفل التونسيّون اليوم بذكرى عزيزة عليهم جميعا ومخاطر الفتنة تهزّ حياتهم بشكل متواتر ، من فتنة جهويّة إلى أخرى عقائديّة إلى ثالثة إيديولوجيّة، وكأنّ معاول الهدم قد غلبت نوايا البناء والتشييد والتأسيس للحلم الّذي ناضلت من أجله أجيال عديدة التي طالبت منذ 9 أفريل 1938 ببرلمان شعبي يكرس الخيار الديمقراطي وإرادة التونسيين والتونسيّات، وكأنّ جاذبيّة السلطة أقوى وأشدّ من الجاذبيّة للوطن. ناقض جزء كبير من النخب والأحزاب قناعاتهم وأفكارهم وهم يتّجهون في الذكرى 56 لإعلان الاستقلال عن وعي أو دونه إلى ارتكاب نفس المطبّات التي وقع فيها الجزء الأكبر من السياسيّين التونسيّين إبّان الاستقلال من رفض لروح المشاركة وطمس لسلوك الإيمان بالآخر وضرب لأسس المشاركة الديمقراطيّة الواسعة وتغليب لنزعات الهيمنة والاستفراد والإقصاء والتهميش. يرفع البعض اليوم شعارات خطيرة من قبيل جعل الذكرى 56 للاستقلال موعدا للتحرّر الفعلي ويتحدّث آخرون عن مؤامرات ودسائس ضدّ الشعب والوطن وضدّ السلطة في آن. هناك أمر ما يجري في كواليس أهل السياسة ، أمر فيه الكثير من الحسابات الضيّقة ، أمر فيه صراع على «مواقع السلطة» وكأنّها –أي السلطة- ما تزال محلّ تشكيك وفي حاجة إلى تعديل آخر ، والحال أنّها قامت من عملية اقتراع شعبي نزيه وشفّاف. الجاذبيّة نحو الوطن أولىاليوم في تونس «كثيرون حول السلطة» يتجاذبونها على وجه حق ودونه، و«قليلون هم الّذين حول الوطن» ، ذكرى الاحتفال بالاستقلال هذه السنة وعلى الرغم من أنّها عنوان وحدة بين كلّ التونسيين والتونسيات إلاّ أنّها تبقى محكومة بتلك الثنائيّة والحال أنّه كان من المفروض أن يكون القليلون حول السلطة بمعنى التسيير وإدارة شؤون البلاد وأن يكون الكثيرون بل الجميع حول الوطن يبحثون له عن حلول لمغادرة الأزمات ويفتحون له الطريق نحو «تجربة سياسيّة ديمقراطيّة فريدة ونموذجيّة رائدة» تقطع مع تجربة حكم هيمني وفردي متغوّل دام 56 سنة كاملة. إنّ الجاذبيّة نحو الوطن هي اليوم الأولى من الجاذبيّة نحو السلطة، ومن المؤكّد أنّ الاصطفاف خلف المطالب الشعبيّة وحاجيات المرحلة تقتضي العديد من الآليات والمفاهيم والأساليب، وفي تصوّري منها على وجه الخصوص: الاستحضار الجماعي والصادق من كلّ الأطراف بمناسبة ذكرى إعلان الاستقلال لمعاني الكفاح الوطني والنضال الشعبي الذي أمّن الاستقلال الوطني وثبت الهوية التونسية العربية الإسلامية بكل أبعادها الحداثية وأسس أركان النظام الجمهوري وبنى هياكل ومؤسسات الدولة العصرية التي ننعم اليوم جميعا بخيراتها. التخلّي عن منطق التآمر والمزايدات وتخوين المخالف مع الالتزام الثابت من الجميع بواجب بناء صرح تونسالجديدة وفاء لروح شهداء التحرير والحرية ولتضحيات المقاومين والمناضلين والشباب. الاستعداد اللامشروط للمساهمة في تأمين مسيرة التأسيس للانتقال الديمقراطي الذي تستوجبه المرحلة بعيدا عن الإقصاء والتهميش والنظرات الضيّقة أو الفئويّة أو الاعتبارات الجهويّة أو الإيديولوجية. التمسّك بمقومات السيادة الوطنية التي تؤمّن مناعة الوطن واستقلال القرار ومشاركة الجميع في إدارة الشأن العام والدفاع عن رموز الوطن والقيم والمكاسب الوطنية وفي مقدمتها الراية الوطنية والنشيد الوطني والمقدسات الدينيّة. التسريع بملف المصالحة الوطنية لتفادي الأحقاد ولتوظيف كل الكفاءات والقدرات التونسية في بناء صرح تونسالجديدة.