إن المتأمل في الشعر التونسي المعاصر في مرحلته الحالية يلاحظ اتجاه العديد من التجارب الشعرية الى نزعة عائلية حيث تطالعنا مجموعات عديدة بقصائد تتمحور حول الابناء والزوجة والأم وهو ما قد يحيلنا على نزعة نحو الشعر العائلي بدأت تسيطر على المشهد وقد لاحظت هذه النزعة في أعمال لصيلع وفي أحد دواوين منصف الوهايبي وفي تجارب أخرى. وقد عجت مجموعة بالكتب الصادرة أخيرا بهذه النزعة التي نطرح حولها أسئلة عديدة، ويظهر في بعضها نوع من البساطة والرداءة وفي الحقيقة فإن هذه الظاهرة تطرح علينا اليوم عدة تساؤلات: هل انحصر مفهوم الشعر في هذه الابعاد التي تجعله شبيها بالرسائل اليومية؟ وهل فرغت ذاكرة الشعر وروحه حتى لم يجد الشعراء غير محيطهم الضيق فراحوا يكتبون نصوصا ربما إرضاء لافراد عائلاتهم؟ أم أن الظاهرة تحمل نوعا من الحنين الذي يسكن الشعراء ورغبتهم في مصافحة كل شيء بالشعر؟ وهل حاول الشعراء في هذه التجارب نقل المشاعر المباشرة أم أنهم دخلوا عوالم الغموض وتفننوا في التصوير الشعري وأعطوا أولادهم وزوجاتهم وأفرادهم مضامين أخرى؟ أسئلة أطرحها بحياد وأنا أعرف أني أقرأ نصوصا من نوع يكثر فيه اختلاط الغث بالسمين... وإني إن أعرض لامثلة مما صدر أخيرا، فإني لا أكشف عما استحسنته منها مما استقبحته ولكني سأبحث في رمزية الظاهرة ودلالاتها في الشعر التونسي. وقد اخترت مجموعة من الاعمال الشعرية الصادرة أخيرا وهي: عصافير بابل لعمار النميري. عذاق النخيل لمحمد الطاهر الحضري. ركض خلف صهيل الريح لجلال باباي. متاهات الروح لعبد الكريم الخالقي. I عصافير بابل لعمار النميري عصافير بابل مجموعة شعرية لعمار النميري قال فيها منصف المزغني «مسموعة شعرية تصدح بالصدق وبراءة التجربة الانسانية في لغة قريبة من وجع القلب وجرح الوطن وعذاب الروح» وقال فيها سمير العيادي: «تجاوز عمار النميري تنميق الكلام وتدقيق التفعيلة لتحقيق الصورة الشعرية التي هي الدلالة الحقيقية على البلاغة في إبداع رؤية متفرّدة في كل ما هو موصوف ومتمردة على كل ما هو معروف». وفي الحقيقة فإن هذه المجموعة الشعرية تتناول مشاعر وأحاسيس قد نراها عادية ولكننا في الحقيقة افتقدناها فشعر القيم تقلص حضوره في عصرنا... إنها قيم الروح والمجتمع وقيم المواطنة أو ربما «المعاربة» (في علاقة بالقيم العربية) وإن عودتنا تجارب أخرى بتناول يكرر اللغة والصور الشعرية فتجربة عمار النميري قد تميزت بمحاولة الشاعر إخراج الصورة بلغة تعتمد على مجازات جديدة أو غير متداولة وقد حضرت في هذا الكتاب نزعات عديدة لكن النزعة العائلية تشد القارئ الذي ينتبه اليها منذ الاهداء «... الى أبنائي الثلاثة: بشير وأميمة وأسماء والى أمي الحبيبة محبوبة» ويكتشف القارئ بين النصوص حضورا مميزا للعائلة حيث نجد قصائد عن الابناء والزوجة والأم والأخ. 1) قصائد عن الابناء: حيث خصصت ثلاث قصائد للابناء وقد حملت هذه القصائد أسماءهم كعناوين لها أو أشير اليهم في الاهداء أول هذه القصائد قصيدة الشجرة الحافية وهي التي أهداها الى ابنه وقد بنيت القصيدة على صورة شعرية حاملة لمعنى الشوق والحب والفراق حيث صور الشاعر بينه وبين ولده نهرا وربما يحمل النهر دلالات عديدة لكن التواجد على ضفتيه يوحي بما أشرنا اليه وقد سعت القصيدة الى دعم هذه الصورة وفك ما فيها من غموض. «وأنت في ضفة النهر وأنت بين المد والمدى أمدّ اليك أهدابي ألهث وارءها فتفتح ذراعيك يا صغيري وتناديني والشوق في عينيك أن أعبر النهر إليك...» ص 27 أما القصيدة الثانية فعنوانها أميمة وفيها تصوير نادر لمشاعر أب تجاه ابنته بتصوير يمتد من الحياة المعاصرة وقد حاول تصويرها على أساس كونها ترمز الى أمها وتذكره بها. «أميمة تخاطب أوتار العود تينع في خوالي العهود ومع لحنها تشدو رياض الوجود أميمتي بنيتي فيك أملي ورجائي وفيك تزهز بروج سمائي» ص 32 وأما القصيدة الثالثة فتحمل عنوان أسماء التي يخاطبها على أساس كونها طفلة عربية ويبثها همومه العربية ويشكو لديها الواقع العربي الرديء وحيرته أمام الجرح الاخير... جرح سقوط بغداد ويرى فيها رائحة أمل عربي: «... وقومي؟ قومي... بالخيانة عقروا العاديات صبحا ومساء وأهدوا الوطن للغرباء لآكلي جثث الموتى والأحياء يجتاحني الذهول يا أسماء وأراك يا صغيرتي طير أبابيل تقطفين حجرا من سجيل وتشعلين مرابض الاعداء فهل يبزغ التاريخ من يديك أسماء؟» ص 70 * قصائد الأم والزوجة: فلقد أهدى الشاعر احدى قصائده الى أمه للتغني بها وبقيمتها في روحه ولكن القصيدة التي تشد الاهتمام في هذا المجال هي رثائية زوجته «زغاريد الآهات» وهي التي أبدى فيها وفاء لروحها وعاد الى ذكرى وفاتها. فمازال يردد وفاءه: «أبحث عنك فيّ في شرايين المطر في خمائل الشجر في زغاريد آهاتي في أشلاء ذاتي...» ومازال يتلذذ بالماضي الذي ازدان بالابناء ولكنه يلتاع من موتها الحزين: «هل تذكرين يا رفيقة دربي لحين خرير الحياة في بيتنا كل صيف وكل شتاء هل تذكرين هل تذكرين يا منجية يوم طلقك مني الموت وتركتني بلا لون... بلا صوت» ص 50 * قصيدة الأخ : وتحمل هذه القصيدة عنوان «اقطف ثمار الشمس» وأهداها الى صديقه فرج وفيها حث له على الصبر. «لا تحزن أخي نجوم الحياة التي تنتظر ستشرق يوما ويهزم... يهزم سيف القدر وتبزغ أنى مشيت زهور المطر وفي حضنك أنت تسوج الحياة تزغرد جهرا طيور القمر» ص 32