أواصل إرسال هذه البطاقة من كوستاريكا، وهذه المرّة، من مدينة لِيمُنْ على مسافة ساعتين ونصف الساعة من سان خوسيه شمال شرقيّ العاصمة الكوستاريكيّة وهي ميناء مهمّ وعاصمة مقاطعة تحمل نفس الاسم وفيها أكبر جامعة للفلاحة في أمريكا اللاتينيّة،
ثم من منتجع تورتوغويرو المفتوح على البحر الكاريبي شمال شرقيّ البلاد على مسافة خمس ساعات من العاصمة الكوستاريكيّة، قريبًا من الحدود مع نيكاراغوا.شاءت الصدفة أن أحضر احتفال الناس هنا باليوم العالمي للكتاب، وشاءت خطّة الجهة التي استضافتني أن أشارك في هذا الاحتفال، بحيث أنتبهُ إلى أنّه ليس مجرّد يوم يُحتفى به من باب رفع العتب كما يحدث في أماكن أخرى، بل هو تتويج لرؤية تعبّر عن نفسها بمختلف الطرق على امتداد أيّام السنة.
أقرّت منظّمة اليونسكو سنة 1995 يومَ 23 أفريل يوما عالميًّا للكتاب واعتبرت الشعوبُ الحيّة هذا اليوم فرصة لتذكير الجميع بالموقع المركزيّ الذي يحتلّه الكتاب في تكوين العقل والوجدان وبدوره الرئيسيّ في تأمين شروط التحرّر والتقدّم.هكذا تعدّدت طرق الاحتفاء بالكتاب في مختلف بلاد العالم وتفنّن أهل الفكر والأدب والفنّ والتربية والثقافة والإعلام في تحويل هذا اليوم إلى عرس وفي استنباط العديد من الطرق والوسائل والتظاهرات الكفيلة بالحثّ على المطالعة.
في هذا السياق يفخر الكوستاريكيّون بأنّهم يحتفلون بالكتاب طيلة السنة ويجعلون لذلك الاحتفال ذروة رمزيّة طيلة الأسبوع الذي يسبق يوم 23 أفريل. وقد رأيت شوارع سان خوسيه وبِيلِنْ ولِيمُنْ مزدانة بصور الكتّاب والشعراء وإلى جانبها ملصقات ضخمة ولافتات كبيرة تتضمّن مقتطفات شديدة التنوّع من نصوص وتصريحات أدباء وشعراء ومفكّرين من مختلف جنسيات العالم يتحدّثون عن رأيهم في المطالعة وعن مكانة الكتاب لديهم. وفي ذلك تتنافس المجالس البلديّة في كامل كوستاريكا.
كما لاحظت انتشار تقليد لدى الكبار والصغار يتمثّل في شراء الكتب بشكل خاصّ طيلة الأسبوع لتبادلها كهدايا في المقاهي والمحطّات وحتى من نوافذ السيّارات وهي تنتظر الأضواء الخضراء في بهجة تسعد قلب المثقّف.
وبداية من 20 أفريل تشرع النوادي الثقافيّة بشراكة مع المجالس المحليّة في دعوة الكُتّاب والشعراء إلى زيارة مختلف فضاءات الحياة للالتقاء بالناس وحثّهم على القراءة. وقد دُعِيتُ في هذا السياق إلى مدرسة خاصة بالمنقطعين عن الدراسة الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و50 سنة، كما دعي بعض زملائي من الشعراء الضيوف إلى مستشفيات وسجون إلخ...
في الأثناء ازدانت شوارع سان خوسيه وبيلن بأطفال في أزياء وبأقنعة مختلفة هذا يمثّل الأمير الصغير وذاك يمثّل دون كيشوت وتلك تذكّر بالأميرة النائمة والأخرى تذكّر بالقبعة الحمراء وخامس يذكّر بهاري بوتر أو ببطل ملفيل إلى آخر قائمة أبطال وبطلات القصص والروايات، وكأنّنا فجأة أمام شخصيّات الخيال وقد انفلتت من الكتب وملأت الشوارع في كرنفال عجيب.
ولم يكتف المعنيّون بالأمر بتجسيد أبطال الادب العالميّ بل احتفوا كلّ الاحتفاء بشخصيّة من إبداع أحد كتّابهم الكبار هو خوايكيم غيتيريز. وقد استقرّت هذه الشخصيّة في وجدان الكوستاريكيّين كبارًا وصغارًا وأصبحت جزءًا من المخيال الجماعيّ.
وكتتويج لكلّ ذلك تمّ تجميع هؤلاء الأطفال في ساحة شبيهة بالملعب وحضر المئات من التلاميذ والاولياء والأساتذة وتمّ تقديم عرض للتحفيز على المطالعة، أسعدني أن أُدعى إلى المشاركة فيه بإلقاء الشعر والتواصل مع المكان وأهله.
تلك هي بعض ملامح عناية الكوستاريكيّين بالكتاب كما بدت لي خلال أيّام معدودة كانت كافية كي أتأكّد من انتباههم، على الأقلّ، إلى ثلاثة امور مهمّة: أوّلا أنّ الكتاب مسألة جوهريّة وأنّ الاحتفاء به طيلة العام هو الذي يبرّر الاحتفال به يوما في السنة.ثانيًا أنّ حثّ الناشئة على المُطالعة لا يعني شيئًا إذا لم يُحَثَّ الكبار على ذلك أيضًا، فالعناية بالكتاب بيئة متكاملة أو لا تكون.
ثالثًا أنّ الدفاع عن الكتاب لا يقوم به أحسن قيام إلاّ الكُتّاب أنفسهم حين يُفسح لهم المجال وتتاح لهم الإمكانيّات. امّا البيروقراطيّة فهي بلا خيال، وغالبًا ما تتحرّك دون قناعة وللظهور في مظهر المتحرّك.