الديمقراطية لا تستقيم مع الفوضى.. وهي كذلك لا تتماشى مع اللاقانون.. هذا ما أمكن ملاحظته من خلال الأحداث المستجدة أمام مبنى التلفزة الوطنية أمس وأمس الأول.. مرة أخرى مطلوب عدم دفع الجماهير والشعب بصفة عامة، في دوامة الفوضى،
فوضى لن تكون خلاّقة إلا لأعداء تونس، أولئك الذين لا يرون في تونس سوى الهيمنة والنهب، في حين أنّت البلاد وانفجرت ثورة من أجل استكمال الاستقلال أولا، وتثبيت مبادئ الحرية والعدالة ثانيا، وتطبيق القانون ثالثا.. ما فجّر الوضع أمام مقرّ التلفزة الوطنية، هو سعي السلطة المنتخبة من المجلس الوطني التأسيسي إلى استغلال اللحظة الآنية، إلى أبعد حدّ.. بل إلى حدّ لا تحتمل فيه ذات اللحظة، وزْرَ الفوضى واختلاط الحابل بالنابل..
هي كلمة حقّ يراد بها باطل، ذاك الذي نشهده عبر التصريحات المختلفة لسياسيين في السلطة المؤقتة، بحق الاعلام التونسي.. نعم، الإعلام التونسي به هنّات، وبه مرض مزمن، شاركت في نكبته أطراف كانت معارضة قبلا، وأضحت اليوم في السلطة. الإعلام ليس معلّقا بين الأرض والسماء، بل هو نتاج المرحلة وصورة للمشهد السياسي والاجتماعي في تونس.. وعبر التاريخ والتجارب ليس هناك سلطة في دفّة الحكم، أقدمت على إصلاح الإعلام، إلاّ وكان تدخلها «لغاية في نفس يعقوب».. ما نشهده اليوم من سجال في غير مكانه، وبطرق بعيدة عن التأسيس لتونسالجديدة المتقدمة، يجعل الثورة في انتكاسة، والبلاد عليلة..
فهذا يعرض الإعلام العمومي، ملك الشعب الكريم، للبيع، ومسوّغه الوحيد في ذلك أنه أكثري في نتائج انتخابات وليس أغلبيا، هي بالمحصلة انتخابات امتحان، يمتحن فيها الناخب المنتخب، وقد يسقطه أو يعيد انتخابه في المرة القادمة وفق برنامج واضح.. وهذا الطرف يشتُم الإعلام تحت راية بلد أجنبي، وقد ذكّرنا في مفارقة، قوامها أن الرئيس الفرنسي الأسبق «فرانسوا ميتران» ولما كان في زيارة رسمية لتونس بعد حرب الخليج في 1991، وتوجه له أحد الصحفيين بسؤال عن شأن وطني فرنسي داخلي، فاجأ ميتران جموع الصحفيين بقوله: «أنا لا أجيب عن سؤال يهمّ وطني، وأنا تحت راية (علم) أجنبية».
هذه فرنسا، رائدة الديمقراطية الليبرالية، يقول رئيسها هذا الكلام.. ونحن، يُنشر غسيلنا الوطني، خارج حدود البلاد وفي غياب العباد.. ما يثير الانزعاج في كل هذا، ان الجميع لم يفهم إلى الآن، أن الديمقراطية دربة، يتعلّمها «السلطان» والمعارض.. وأن تونس تتلمّس طريقها نحو إقرار مبدإ الاختلاف، لأن في الاختلاف رحمة وفي الرأي الواحد نقمة.. وقد جرّبنا هذا الخيار الأخير، واكتوى شعبنا وحده، بنيرانه، ولا يزال.. أخشى ما يمكن خشيته أن نضَيّع الهدفُ بتعلّة أننا نصلح العود الأعوج.. فيا ويحنا لقد تُهنا..