مرسل الكسيبي :"ليس المجلس التأسيسي المرتقب حلبة صراع وملاكمة..., وانما هو مجلس ينهض بعظيم تفويض عن الأمة , وهو مايحتم على الجميع أفرادا وزعامات وأحزاب , تمثل عظم اللحظة التاريخية التي يمتحن فيها الوطن وأهله في ميقات حرية ... اللهم اني قد بلغت , اللهم فاشهد !..." الوطن الذي حلم به أبناء تونس وبناتها قبل سقوط الديكتاتور مساء الرابع عشر من جانفي 2011 , هو بلا شك وطن حر للجميع , لا اقصاء فيه ولاتهميش ولاقهر ولافساد , وطن تحترم فيه كرامة الانسان وحقوقه , ويعدل فيه بين مواطناته ومواطنيه , وتوزع فيه الثروة بعد الثورة بشكل عادل بين الجهات , وتتاح فيه فرص التشغيل لأبناء الوطن ويتحقق فيه الرفاه كانعكاس جاذب للعدل... هو وطن ينهض فيه بالعلم والتعليم والتقانة, ويتحرر فيه الاعلام وتتحقق فيه التنمية على صعيد السياسة بموازاة ومحاذاة مايتحقق فيه من خير ونماء اقتصادي ونمو اجتماعي ... هو وطن تنقطع فيه أخبار التعذيب والاعتقال السياسي , وتسود فيه أحكام دولة القانون والمؤسسات وتعبر فيه مجالس "الأمة" في المركز والمحليات عن ارادة الشعب... هو الوطن في حلم التونسيات والتونسيات , قبيل الثورة وبعدها , وليس تحقيق الأحلام في الواقع كبيرة نآخذ بها الأمة والشعب , فنعود في صعيد من الصعد الى ممارسات الماضي حين حكمنا صوت "أعل هبل !"... ليس مشروعا اليوم بعد الثورة أن نعود الى الرشوة أو المحسوبية أو القمع ,أو الى التنصيب كآلية في اتخاذ القرار , أو الى التزييف الانتخابي كآلية في الالتفاف على ارادة الشعب ..., أو الى الوعود الكاذبة في مخاطبة الجمهور ... فالأفعال الماضية اعرابها الماضي دون تعليق أدوات نحوها وصرفها على الحاضر والمستقبل... حين نتحدث عن التغيير , فان سننه في الكون غلابة , ولاشك في أن مفعول الزمن جدير بمعالجة تراكمات أفرزها الماضي , فنيل الأعالي ليس مسيرة شهر أو 3 أشهر أو ستة , ولا حتى سنة ... مشكلات العطالة وسوء توزيع الثروة , وغياب التنمية العادلة , وميراث التعذيب وتركة حقوق الانسان المثقلة بسنوات الجمر والرصاص , لن تحل في تقدير موضوعي في ظرف أشهر معدودة , ولا حتى الديمقراطية المنشودة يمكن تحقيقها في تاريخ الشعوب في مسيرة نصف سنة .., فالانتقال من السواد الى البياض والألوان, يحتاج قطعا الى مكابدة مستمرة , كما هو شأن الانتقال من الديكتاتورية واللصوصية الرسمية الى الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية .., فهي مسيرة كدح ومكابدة قد تستغرق بضع سنوات حتى ترسو التجربة التونسية بعد الثورة على مستقر راسخ من تقاليد التداول والقبول بالآخر والاحتكام الشفاف الى صناديق الاقتراع ... في الوضع الانتقالي تنشغل الحكومات بتقديم الأهم على المهم , وبسد الحاجات الضرورية للدولة والمجتمع في حالة من تصريف الأعمال انتظارا لانتخاب الشرعيات وشرعنة المؤسسات بارادة شعبية حرة ... ليس من المعقول بمكان أن تواجه الحكومات الانتقالية باعتصامات متكررة وفوضى عارمة وحالة عطالة شاملة , كما ليس من الحكمة بمكان أن تركن أجهزة الأمن الى الاضراب والعطالة تكريسا لحالة الموقف السلبي من الثورة , أو الحنين الى نموذج الدولة البوليسية , فالوطن منذ سقوط الديكتاتور أصبح وطنا للجميع مدنيين وأمنيين , ليتساوى الجميع في الحقوق والواجبات أمام سلطان القانون وأحكام الاجتماع البشري في اطار الدولة... الكل يتحتم عليه اليوم الانخراط في مسار اقتضته الثورة اصلاحا للأوضاع وتنمية للقدرات وبناء للمؤسسات وتجاوزا للفساد والاستبداد , واعلاء للوطن على ماسواه من أشخاص وهيئات اعتبارية , جمعيات وأحزاب وايديولوجيات ومصالح شخصية وجماعية ضيقة ... ان للقضاء المهيب والمستقل دورا في اعادة الطمأنينة الى النفوس , وان في الوطنية والأخلاق الرفيعة لمسلكا آمنا للجميع من أجل الترفع عن المكر والكيد في الحياة الوطنية , اذ أننا اليوم في غنى عن الحرب الخاطئة بين أبناء الشعب الواحد , فمعارك الحرية والدمقرطة لاتتأسس على الضغينة والأحقاد والشوفينية الحزبية والزعاماتية , وهو ماينعكس على الوطن خرابا في العمران وتقهقرا في البنيان وتخلفا بين الأمم الثائرة... هو الوطن الجديد نبنيه حرا شامخا بفعلنا جميعا في مسالك التقدم والرفعة , وليس بتعميم الفوضى وتقويض العقد الاجتماعي , لينفرط عقد الوطن بين أحزاب متناحرة على كعكة السلطة مع أقرب موعد انتخابي ... لتتنافس الأحزاب !, فهذا أمر مشروع , لكن ليس على حساب الوطن والتعايش والسلم الأهلي ! , وليدافع الشرفاء في سلك الأمن عن سمعتهم وتضحياتهم !, ولكن ليس بالتزام الحالة السلبية في مواجهة الجريمة واللصوصية والانحرافات المخلة بأمن المجتمع !... ليتحمس الشباب الى الثورة ومبادئها العظيمة حرية وكرامة, لكن ليس بقلة وعي أو اندفاع متهور , فالثورة أحوج ماتكون اليوم الى الحكمة والبناء , وليست المرحلة مرحلة شوارع وصدامات واعتصامات شاملة ونحن اليوم قاب قوسين أو أدنى من تنظيم الانتخابات ..! دعونا نرسي السفينة سويا في بر آمن يوم 23 أكتوبر القادم , ونحميها بعون الله بعد ذلك يدا بيد من العدوان , حين تشف الانتخابات عمن يصطفيهم الشعب لعظيم الأمانة ... ليس المجلس التأسيسي المرتقب حلبة صراع وملاكمة واقتتال ,وانما هو مجلس ينهض بعظيم تفويض عن الأمة , وهو مايحتم على الجميع أفرادا وزعامات وأحزاب ,تمثل عظم اللحظة التاريخيةالتي يمتحن فيهاالوطن وأهله في ميقات حرية ... اللهم اني قد بلغت , اللهم فاشهد !... كتبه مرسل الكسيبي* بتاريخ 21 جويلية 2011 *كاتب واعلامي تونسي مقيم بألمانيا