قال صاحبي : انطلق الحديث تحت عنوان «الردة الفكرية»، مؤكدا على أنه لا أمل في إرساء أسس الدولة المدنية الديمقراطية في مناخ تسيطر عليه الردة الفكرية، وربيبتها الردة السياسية بالرغم مما يرفع من شعارات هنا وهناك. - قلت : إن تأكيدي على ذلك لم يأت نتيجة تفكير نظري محض، أوعن موقف فكري سياسي، وإنما جاء نتيجة استقراء لميلاد مفهوم «الدولة المدنية»، والمراحل التاريخية التي مر بها منذ أكثر من قرنين، أي منذ الثورة الفرنسية الكبرى، وهي التي أسقطت الحكم المطلق الإقطاعي، وزعزعت في ذات الآن أركان سلطة الكنيسة، فالمفهوم لم ينبت في بيئتها، ولكنه تحول مع الزمن إلى مفهوم كوني، وأفادت منه كثير من الشعوب من خارج تربته الأصلية، ويمكن اليوم للشعوب العربية الإفادة منه إذا نجحت في مرحلة انتقالها من الاستبداد إلى الديمقراطية، وحصل الإجماع على أن الدولة المدنية هي وحدها القادرة على حماية البناء الديمقراطي الجديد.
قال صاحبي: هنا قفز إلى ذهني التساؤل التالي: لما انطلق قطار ثورات الحرية من تونس في اتجاه أقطار المشرق العربي مرورا بالشقيقة ليبيا كادت الشعارات تتوحدحول مفهومين أساسيين من مفاهيم الدولة المدنية، وأعني الحرية، والديمقراطية، لماذا سيطرت الريبة، وانتشر التشاؤم بعد ذلك ؟
قلت : لا بد من ربط ذلك بظاهرة دينية سياسية جديدة طفت فوق السطح، وقد كانت سنوات طويلة مقموعة، وأعني ظاهرة الإسلام السياسي، وقد فتحت لها الثورات الباب على مصراعيه للوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، وقبل الناس قواعد اللعبة الديمقراطية القائمة على مبدئين : التداول السلمي على السلطة، وصيانة الصبغة المدنية للدولة لتكون دولة الجميع، ولا تسخر لخدمة إيديولوجية معينة. بدأ القلق لما بدأت بعض قيادات الإسلام السياسي تتحدث عن الدولة المدنية بمفاهيم سياسية تراثية عرفها الفكر السياسي الإسلامي منذ قرون طويلة مثل مفهوم «الخلافة» و«الشورى»، و«ديوان المظالم»، وتحديث «الفقه السياسي»، والمطالبة بتطبيق الشريعة، والتنكر إلى ما حققته المرأة العربية المسلمة من مكاسب نتيجة عقود طويلة من النضال. كيف يمكن الحديث عن الدولة المدنية بهذه العقلية الماضوية، ملاحظا أن الإسلام في جوهره باعتباره دين هداية قبل كل شيء لا يتناقض مع المفهوم الحديث للدولة المدنية بشرط فصل الدين عن السياسة، وليس فصل الدين عن الدولة، والبون بينهما شاسع.
قال صاحبي: لا أكتمك سرا أنني أصبحت شغوفا بقراءة ما تصل إليه يدي من أقوال قادة حركات الإسلام السياسي مشرقا ومغربا، ولفت انتباهي أنهم يذكرون شيوخا عاشوا في العصر الوسيط، وأبرزهم عاش في القرن السابع الهجري مثل الشيخ ابن تيمية (661-728ه)، وتلميذه ابن قيم الجوزية (691-751ه)، ويتجاهلون كبار المجتهدين من رادة الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فلا نعثر بين مراجعهم عن نصوص الطهطاوي، وخير الدين، والشيخ أحمد بن أبي الضياف، وبيرم الخامس، والشيخ محمد عبده، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وأخيه علي عبد الرازق، ومحمد إقبال، وحتى المصلح الثائر عبد الرحمن الكواكبي، فهل من تفسير لذلك ؟
قلت: هذه الحيرة قد انتابت كثيرا من الدارسين للفكر الإسلامي السياسي المعاصر، وبخاصة الفكر الإخواني، بل بلغ الشك ببعضهم فتساءل: هل يعتبرون كبار المجددين للفكر الإسلامي المعاصر قد حادوا عن الصراط المستقيم لما نهلوا من منابع إسلامية متعددة، ومتنوعة، ولم يسجنوا فكرهم في مذهب مرت على نشأته قرون طويلة، وأعني المذهب الحنبلي، وقد ظهر ضمن صراع مذهبي سياسي كاد أن يؤول إلى فتنة نتيجة توظيف الدين لأهداف سياسية. لم يفهم الناس القفز على قرنين من جهود تجديد الفكر الإسلامي (القرن التاسع عشر والقرن العشرين) والعودة إلى القرن السابع الهجري، واتخاذ كتاب «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» مرجعا لتحديث «الفقه سياسي» !! ويتساءل الناس ما علاقة «الفقه السياسي»، بالعلوم السياسية الحديثة، وما يتفرع عنها من معاهدات، وعلاقات دولية معقدة، وهل سيضع «الفقه السياسي» قواعد بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي من أجلها قامت الثورات العربية ؟
قال صاحبي: أود العودة إلى جوهر المسألة التي انطلقنا منها، متسائلا : هل نجد أثرا لمفهوم «الدولة المدنية» في أدبيات الفكر الإسلامي التجديدي الذي عرفه القرن التاسع عشر؟