في كلّ عصر ومِصْر، وعلى امتداد تاريخ العرب العاربة والمستعربة يظهر «أيتام الزعيم» يرقصون لميلاده وينوحون عند غيابه. وهُمْ من زعيم إلى زعيم. يبشّرون بقادم .ويندبون الراحل .هؤلاء الذين يقايضون غباءهم بذكاء الآخرين،
أوهموا في زمن غابر، المساكين الحالمين بجنّة الدنيا والآخرة أنّ زعيما قادما من «بلاد النيل» سيُلْقي بإسرائيل في البحر، وآخر من «دجلة» و»الفرات» سيحرقها ،وآخر أسّس جماهيرية من وهم وخراب ،ادعى أنّه وريث شرعي لمسلسل تدمير إسرائيل فإذا هو امتداد لفساد استفحل شرق البلاد العربيّة وغريها. ولم يكن «أيتام الزعيم» منفكّين حتّى تأتيهم البيّنة...إشارات من التاريخ البعيد والقريب تكشف لهم زيف أوهامهم وفداحة الجرم الذي ارتكبوه في حقّ «دهماء» تفرح بلا سبب وتبكي بغباء، وتُستدعى لحفلات تنكّرية تستجيب لمنعطفات كلّ مرحلة... ولما يئس هؤلاء المبشرّون بالزعيم من ميلاد قائد عربي حوّلوا وجهتهم إلى «تركيا» ووجدوا في لاعب كرة قدم سابق اعتلى عرش تركيا ،وبدأ يناور ويجاهر بمعاداته لإسرائيل، خير مجسّم لصورة الزعيم الذي عانوا طويلا من اليُتم لغيابه وراقصوا من خلاله أحلامهم الجاهزة لتلتصق بأول مدغدغ للمشاعر.وبسرعة غريبة أصبحت صور «أردوغان» ترفع في الميادين ،وتصاحب الأعلام والشعارات في المظاهرات العربية!!.
ويبدو أنّ هذا الزعيم التركي الجديد قد التقط حساسيّة كثيرين من الباحثين عن جلباب «الزعيم» فراح يبدع في تشخيص المجازات العربية. لقد أدرك، بحسّ سياسيّ مرهف، أنّ هذه الأمّة ظاهرة صوتيّة فصاح في وجه «بيريز» غاضبا. وغادر قاعة الاجتماع احتجاجا على ما تمارسه إسرائيل من قمع وقتل.لكنّ جيشه العتيد الذي يرتكب جرائم ضدّ الأكراد، تسلّم بعد أسبوع فقط من غضب «الزعيم أردوغان»، مجموعة من الطائرات الإسرائيليّة دون طيّار. ونفس هذا الذي ظهر في «تركيا» ليرفع راية الإسلام،ويدافع عن حقوق الفلسطينيين في المحافل الدوليّة، هو الذي قبل بأن يقايض الضغط على «سوريا» بالصمت على ما يفعله ضد الأكراد. واشترى، بدماء الشعب السوري، صمت القوى الكبرى عن حماقات جيشه وعربدته.
وتؤكّد تقارير اقتصاديّة أنّ حجم المبادلات التجارية بين «تركيا» وإسرائيل قد ارتفع منذ تولّي حزب «أردوغان السلطة». وحتّى سحابة الخلافات السياسيّة لم تحجب، ولم تمنع تواصل الصفقات الاقتصادية في كلّ المجالات بين البلديْن. وفي منطق «النفعية» الذي تقوم عليه الخيارات السياسية لا يُعَدُّ رئيس الوزراء التركي مذنبا إذ من علامات النجاح السياسي تغليب مصلحة الوطن على كلّ القيم الأخلاقية. ومن حقّ هذا الرجل أن يلعب لعبته السياسية بالشكل الذي يراه مناسبا لكن العيب في أيتام الزعيم الذين يبحثون بهوس محموم عن وعاء فارغ يستوعب كلّ أحلامهم ويجسّدها حتى وإن كان قربة مثقوبة لا يمكنها أن تتحمّل أعباء هذه الأحلام المتشظية على صخور الواقع. إنّ الشعوب تستحقّ حكامها. هذه حقيقة يثبتها التاريخ. ولن ينصلح حال هذه «الأمة» مادام فيها مَنْ يترقّب «مهديا منتظرا» سيخرج من حفرة،وفيها من يتذلّل لرجل يقال عنه إنّه «زعيم» يجب أن يطاع وأن يرغم الجمع على أن ينصاع لأوامره. لا يوجد «زعيم» متورّم إلّا في مخيّلة الضعفاء الخانعين، بل يوجد أناس رضعوا الخضوع واستطابوا العيش في الذل...واليوم في تونس نرى نخبا وذوي طموح، يركضون للقاء الزعيم الجديد، والتمسّح على أعتابه علّ كرمه يفيض فينالهم من منه نصيب. إنّ البلاد تسير نحو خلق «بن علي» جديد بسبب عرّابي الزعيم الذين تجرّدوا من كلّ القيم، وحوّلوا أسيادهم الجدد إلى أبطال من ورق. وغاب عن هؤلاء أنّه لا يوجد سياسيّ يعيش من أجل الجماهير بل لا يوجد إلّا مَنْ يريد أن ينوّم الجماهير، وأن يسرق الكلام من الشفاه ليوهم المغرّر بهم بأنّه لسان حالهم.والناظر في الخارطة السياسية بتونس يكتشف أنّ أحزابا عتيدة قاوم مناضلوها الطغيان لكنّ أنانيّة الزعيم حطّمتها وألقت بها في مجاهل النسيان. إن رسم طريق الثورة الصحيح يمرّ من الكفر بالزعيم الواحد الرمز القائد المعلّم.. هذا المعتقد الوثنيّ الذي كبّل العقل العربي السياسيّ وسجنه في حبال الخضوع والاستسلام.إنّ القادة السياسيين الذين يعرضون أحلامهم الخاصّة وكأنها مطالب الجماهير، هم كبار الأفاكين الذين يتلاعبون بالمشاعر.وأين هو الزعيم السياسيّ في تونس الذي لم يضمن مكانا لزوجته أو أبنائه أو أصهاره؟ كلّهم دون استثناء يطبقون المثل الشعبي التونسي «ماتجوز الصدقة كان ما يتززّى أولاد الدار».
إن هذه البلاد التي تسير في تاريخها الجديد مركبا بلا ربّان، لا تحتاج إلى زعيم يعيد أمجاد الأجداد ،ويبني أهرامات الوهم من جديد. هي فقط بحاجة إلى سلطة العقل هذا المضاد الحيوي الذي يقضي على جراثيم الخرافة والتخلّف،ويبني لغد أفضل تنقشع فيه سحب الطغيان النائم في وجدان الضعفاء،وينعدم فيه «فيروس» الخضوع الأعمى للزعيم الذي مات ولم يبق إلا أن يعلن خبر وفاته في الأفئدة والصدور.. [email protected]