بقلم: محمد رامي عبد المولى الآن وقد عاد رئيس الوزراء التركي "أردوغان" إلى بيته فرحا مسرورا من حفاوة الاستقبال الشعبي والرسمي التي لقيها خلال زيارته الّتي شملت كلا من مصر وتونس وليبيا، يتوجب الوقوف على أهم مدلولات تلك الزيارة... أكثر ما شد انتباهي هو استقبال الفاتحين الذي حظي به الرجل خصوصا من قبل أنصار الحركات الإسلامية... أحد المواطنين الذين هبوا من كل فج عميق لاستقبال الرجل في مطار "قرطاج" رفع لافتة كتب عليها :" بعد أن أرسلت تركيا قافلة الحرية إلى غزة، هاهي ترسل قافلة الرجولة إلى الحكومة التونسية".. لعل هذا العاشق للرجولة التركية يقصد "بقافلة الرجولة" كتيبة رجال الأعمال الأتراك الذين رافقوا أردوغان في زيارته... الملاحظ ان شعبية الرجل وبلاده ما انفكت تتنامي وإن النفوذ العثماني الجديد مرشح بقوة لأن يتعاظم في أراضي وقلوب العرب نظرا لشدة بؤس النظام العربي الرسمي ولشدة قسوة اليتم العربي الشعبي...نعم، إنه يتم المواطن العربي الذي يرزح تحت ثقل أنظمة لا تحرر الأرض ولا توفر الخبز ولا تصون الكرامة الوطنية..المواطن العربي يعاني منذ عقود هبوطا حادا في كرامته القومية والإنسانية والوطن العربي يشكو من فقر مدقع على مستوى القيادات والزعامات المناهضة للإستعمار والصهيونية... بدأ اليتم مع رحيل الزعيم "جمال عبد الناصر" وقدوم "السادات" وبدأ يكبر مع تتالى إنحرافات حركة التحرر الفلسطينية وتراجع تأثير الحركات الثورية والتقدمية في الوطن العربي ، ثم جاءت حرب الخليج واتفاقيات "أوسلو" و"وادي عربة" وانكسارات أخرى حتى بلغ شعور اليتم أشده مع الغزو البربري للعراق سنة 2003 وسط تواطؤ النظام العربي (بمنبطحيه ومعتدليه وممانعيه) وسقوط نظام صدام حسين...و أصبح المواطن العربي اليتيم يتبنى أي "أب" يطبطب على أكتافه ويعده خيرا: بعد أحداث 11 سبتمبر هلل الكثيرون من العرب لتنظيم القاعدة ولبن لادن الذي نسي الكثيرون إنه كان الفتى الذهبي للدول الغربية أثناء صراعها مع الإتحاد السوفياتي في أفغانستان ثم بدأ الكثير من العرب يفهمون حجم الخدمات الجليلة التي يقدمها تنظيم القاعدة ومشتقاته للقوى الإستعمارية الغربية وللأنظمة العربية حيث أصبحت ضرباته حجة لعودة أشكال الإستعمار القديم ولإطالة عمر قوانين الطوارئ في الدول العربية...بعد ذلك أتت الخطب النارية للرئيس الإيراني "أحمدي نجاد" حول إزالة الكيان الصهيوني من الخريطة وعن التصدي للشيطان الأكبر أمريكا فألهبت مشاعر الملايين من العرب وتنامي الأمل في "معسكر الممانعة" الذي تقوده إيران حتى بلغ ذروته خصوصا مع استبسال مقاومي حزب اللّه الذين دحروا العدوان الإسرائيلي على لبنان...لكن سرعان ما بدأت الأسئلة تطرح: ماهو الدور الذي لعبته إيران في إحتلال العراق وأفغانستان؟ كيف تدعم إيران حكومات العار وفرق الموت الطائفية في العراق ثم تدعم وتسلح حزب الله وحماس؟... ثم جاء دور تركيا "السنية" و"المعتدلة" لتملأ الفراغ وبدا ذلك المنعطف جليا خلال الحرب التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة في أواخر سنة 2008 وسط العجز(بل التواطؤ) العربي الرسمي المخزي...بينما كان سكان غزة يستغيثون بالعرب لم يجد وزير خارجية مصر، أكبر دولة عربية، من حل إلا الالتجاء إلى تركيا طلبا لعون "الباب العالي". بعد الحرب خرجت تركيا أكبر مستفيد وتدعمت مكانتها عندما تصدى "أردوغان" بكل شجاعة لأكاذيب "شمعون بيريز" خلال مؤتمر "دافوس" بينما كان "عمرو موسى" يسمع ويرى ولا يتكلم... بدا الأمر وكأن تركيا تبنت مسألة رفع الحصار عن غزة والدفاع عن القضية الفلسطينية وبدأ الكثير من المحللين السياسيين والمثقفين العرب يتحدثون عن تغير استراتيجي في السياسات الخارجية والعلاقات الدولية لتركيا وسمعنا كلاما عن عودة تركيا إلى محيطها الشرقي الإسلامي وعن إنتهاء "الكمالية" وعن تغيرات جذرية سيشهدها الشرق الأوسط و..و..و.. أظن إنه من المبكر جدا الحكم على المواقف التركية: هل هناك حقيقة تغيير استراتيجي؟ أم هي فقط تعديلات بسيطة؟ أم إنها لا تعدو أن تكون مجرد قنابل صوتية وحملة علاقات عامة يراد بها تعزيز موقع تركيا وربما تنصيبها ك"عرّاب" للوطن العربي خصوصا مع تنامي إمكانية وصول الإسلاميين إلى السلطة في عدة دول عربية خلال الأشهر والسنوات القادمة؟...المتأمل لزيارة أردوغان العربية الأخيرة يلاحظ إنها كانت متعددة الدلالات والأهداف : إظهار الدعم التركي للانتفاضات العربية، ضمان نصيب جيد من كعكة الاستثمارات، الدعم المبطن للتيارات الإسلامية عبر الحديث عن عدم تناقض الإسلام والديمقراطية لكن مع تسويق "النموذج التركي" كالشكل الأمثل للحكم في العالم الإسلامي... أتمنى من الذين سارعوا إلى التهليل لل"حليف" التركي وإلى التسبيح بحمد "أردوغان" أن لا ينسوا إن تركيا هي عضو في "الناتو" وحليف إستراتيجي للولايات المتحدةالأمريكية وإنها لم تشكك يوما في شرعية الكيان الصهيوني بل إنها كثيرا ما إقترحت الوساطة بين العرب وإسرائيل في ما يسمى "عملية السلام" وعليهم أن يفهموا أن طرد السفير الإسرائيلي بعد 16 شهرا من حادثة السفينة "مرمرة" جاء متزامنا مع توقيع تركيا على إتفاقية الناتو لنشر الدرع الصاروخي على الأراضي التركية والكل يعلم مدى خطورة هذه الخطوة على المنطقة، وعليهم أيضا أن لا يعلقوا آمالا كبيرة على الأزمة الحالية بين تركيا وإسرائيل فنحن لا ندري بعد هل أن الأمر سحابة صيف عابرة أم أنه تغير حقيقي في السياسات التركية؟ كما لا يجب إغفال حقيقة كون تركيا قوة إقليمية كبرى لها طموحاتها وحساباتها التي لا تحكمها العواطف أو النوايا الحسنة بل المصالح والمصالح فقط... طبعا نحن لا ندعو إلى عداء تركيا بل نحن نتمنى توسيع جبهة الأصدقاء، لكن يجب أن نستخلص الدروس ويجب أن نفهم إن التحالفات تكون أفقية وليست عمودية وإلا تحولت إلى إستزلام وإرتباط... الخلاص العربي لن يأتي إلا عن طريق جهود ونضالات وطنية يخوضها العرب دون أن ينتظروا أن يأتي الآخرون ويحررونهم من بؤسهم ودون أن يصبحوا "كالأيتام على مائدة اللئام"...