حكى لي أحد معارفي من المهاجرين التونسييين في فرنسا ان صديقا له تونسيا هو الآخر تشاجر مع جارة له فرنسية فقال لها في حمأة الغضب بلغتها ما ترجمته «أقسم أني سأقتلك» بطبيعة الحال اخذت الفرنسية كلامه على محمل الجد فتقدمت ضده بشكاية. أحيل الرجل على العدالة بتهمة «التهديد بما يوجب عقابا جنائيا» استغرب التونسي مما فعلته جارته وهو الذي تعود ان يطلق هذا التهديد في وجه كل من يشجر بينه وبينهم خصام ولو بسيط بل احيانا في وجه اصدقائه وعلى سبيل المزاح لا أكثر. حين وقف الرجل امام المحكمة قال المحامي الذي نابه في القضية للقاضي «يا سيدي هذا الرجل عربي والعرب قوم لا يميزون كثيرا بين لغة المجاز ولغة الحقيقة وليس هناك حقا اية نية في القتل لدى منوبي» وبقطع النظر عن مدى انطباق هذا الحكم على اللغة العربية ومن ورائها على العقل العربي وهو الحكم الذي جعل منه بعض المستشرقين من ذوي الميولات العنصرية نظرية حول عجز اللغات السامية عموما عن إبداع لغة العلم والقانون وذلك لميلها الى المجاز والخيال فإن هذه القصة ذكرتني بما يحدث لدينا هذه الايام اذ اصبح التهديد بالقتل لغة سائدة فهذا الصرصار يدعو الى قتل قائد السبسي وهذا عدنان الحاجي يدعو الى قتل «من يزعمون خوف الله» في إشارة واضحة الى أنصار النهضة.
ثم يتفق هذا وذاك بعد ذلك ان القتل هنا ليس على وجه الحقيقة بل هو مجاز تبيحه لغة السياسة فيصبح القتل سياسيا لا ماديا. ليس هذا أهم ما في المسألة لأن الأخطر هو ان نستنكر دعوة هذا للقتل إذا لم يوافق هواه هوانا فنجعل من قوله قضية وطنية تستنزف من أجلها الجميع ونجيشهم شعورا منا بهول الخطاب وعواقبه المخيفة ونغض الطرف عن دعوة الآخر اذا جمعت بيننا مصالح السياسة فنلتمس له الأعذار. وإذا تعذّر تبرير الجريمة فإننا أخذا بالخاطر او درءا للشبهات او بحثا عن تناسق بين موقف وآخر نستنكرها ولكن بصيغة مخصوصة. فهذه جريدة «المغرب» التي لا احد يشك في نزاهتها طبعا تستنكر ما فعله الحاجي.
ولكن مهلا... مهلا... انها تنشر الخبر في زاوية من زوايا صفحتها الأولى فدعوة القتل هنا أقل فداحة من أن نعطيها الحجم الذي أعطيناه لغيرها رغم انها تعني جمعا هذه المرة لا فردا بل رغم انها قيلت في جرح البلاد النازف على الدوام: في الحوض المنجمي بكل النار التي تشتعل فيه والتي زادتها النعرات القبلية تأججا والتهابا. يحلى الخبر بصورة للحاجي وهو يرسم بإصبعيه علامة النصر (على من سينتصر) كل ذلك مع وضع لفظ القتل بين ظفرين كعلامة نصية معروفة الدلالة وكأن الجريدة لا تريد ان تصدق هي الأخرى في موضوعيتها الموضوعة بين ظفرين ان القتل جدي او كأنها تنأى بنفسها عن المعنى الحرفي الذي يمكن ان يذهب اليه البعض فتتبنى المعنى المجازي ولكن بطريقة المخاتلة «أنا معاكم لا تشكّو فيّ».
يا سادة الدعوة الى القتل هي دعوة الى القتل وليس فيها ما كان سياسيا وما كان غير سياسي وعلى فرض وجود جنس من القتل سياسي فهو أخطر لأنه يقود الى الفتنة. إن الدعوة إلى القتل مرفوضة بنفس القوة أيا كان الشخص الذي صدرت عنه ولا أعتقد أن الماضي النضالي لهذا أو ذاك يمكن أن يبرر ما يقوله أول لا يقوله لست في حاجة إلى أن أذكر بمعرفتي بالحاجي كما أني لست مجبرا على تعداد خصاله في ما يشبه التبرير لموقفي منه مثل ما يفعل الكثيرون ممن تعودوا مسك العصا من الوسط فالحسن عندي لا يبرر القبيح والماضي لا يسعف الحاضران زاغ عن مقاصده النبيلة...
ولكني أذكر رغم ذلك أني كتبت له قبل الثورة حين كان الكلام بثمن رسالة مفتوحة ليلة العيد وهو في سجنه نشرتها إحدى جرائد المعارضة حينها لا يهمني كثيرا إن كان وصله خبرها أو لم يصله فالرسالة كانت موجهة إلى السجان أكثر مما كانت موجهة إلى السجين وفحواها «أنت يا عدنان حر في سجنك ونحن في دولة الاستبداد سجناء في حريتنا» لا أريد أن أكتب له ثانية، أريد فقط أن أقول له إنه «لا فرق بينك عندي وبين من يزعمون خوف الله ويدعون رغم ذلك إلى قتل خصومهم السياسيين فأنت مثلهم سواء بسواء لأنك لا تميز في الوسائل بين المباح وغير المباح فتستعيض عن الكلمة بالنار التي إذا لم تجد ما تأكله أكلت بعضها بضعا لتكون ضحية لنفسها» فحذار من اللعب بالنار حتى لا تحترق أصابعنا كلنا : من يخاف الله منا حقا ومن يزعم أنه يخافه.