تشهد الساحة الاجتماعية التونسية خلال الأسابيع الأخيرة عودة لتصاعد وتيرة الاحتجاجات، بعد التراجع النسبي لها، ولعلها هذه المرة تتخذ أشكالا جديدة تتمثل في إعلان الإضراب العام ببعض المدن وغلقها في وجه مختلف الأنشطة، وهذا وضع ينذر حقيقة بالخطر، نظرا لتزامنه وتكرره في مدن عديدة. وأحسب أن هذه الاحتجاجات تعبر عن تذمّرات حقيقية وربما نفاد صبر الأهالي، خاصة من سكان المناطق الأكثر حرمانا. ولعل متابعة الأهالي للجدال الدائر بين الفاعلين السياسيين في المجلس التأسيسي وفي وسائل الإعلام، تجعلهم متشائمين وغاضبين أحيانا من تهميش قضاياهم المعيشية، التي قامت الثورة أساسا من أجلها، والانصراف بدل ذلك إلى حوارات نُخبوية وأحيانا إضاعة الوقت وإطالته في قضايا عقيمة لا تقدم ولا تؤخر بأوضاع الناس ولا تخفف من معاناتهم.
إنّ عودة ارتفاع وتيرة الاحتجاج الاجتماعي في هذه المرحلة، وتراجع الوضع الأمني بالمناطق الداخلية خاصة، بعد التحسّن الحاصل، بحصول مظاهر عنف واستهداف للممتلكات العامة والخاصة ومهاجمة مراكز الأمن من جهة، وعودة أشكال من الحركة الاحتجاجية في صفوف أسلاك الأمن من جهة ثانية، مؤشرات تؤكد الحاجة إلى معالجة سريعة لعدد من الملفات المتعلقة بالأوضاع الصعبة لبعض الأفراد أو الأسر أو المجموعات وللاحتقان المتزايد في الجهات بسبب استمرار التهميش وانسداد الأفق. وأن معالجة ناجعة لتلك الملفات لا يمكن تأمينها دون رسائل طمأنة سياسية ذات مصداقية، وإشراك للأطراف الاجتماعية وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، وحسن تقدير رصيده التاريخي ومشاركته في إنجاح الثورة ووزنه الوطني.
وإننا بقدر ما نجدّد تعبيرنا عن تضامنا مع المطالب الاجتماعية الملحّة للجهات الأكثر حرمانا، وفي مقدمة تلك المطالب الحق في الشغل وتخفيف معاناة السكان المادية، فإننا لا يجب أن ننفك عن التنبيه إلى مخاطر تكرّر تعطيل المرافق العمومية وإرباك الدورة الاقتصادية، بتوقيف الإنتاج بالمؤسسات العمومية والخاصة، وما يسببه ذلك من انكماش الاستثمار وفقدان مواطن العمل واستفحال البطالة بدل تقليصها.
ومن ناحية أخرى يظل التحذيرمتأكدا إلى جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والمدنيين، من مخاطر تحوّل التجاذب السياسي والأيديولوجبي والمناكفة الحادة للحكومة، أو شيطنة الخصوم، إلى نوع من الغطاء السياسي للجريمة العامة والسياسية بأنواعها، وتهديد لسلطة الدولة دون إدراك للعواقب الخطيرة لمثل هذا المسار على مستقبل البلاد والعباد.
ونحسب أنه بعد مرور ستة أشهر عن الانتخابات وأكثر من أربعة أشهر عن تشكّل الحكومة. وبعد تحديد الروزنامة السياسية الوطنية بضبط أجل الفراغ من كتابة الدستور في موفى نوفمبر 2012 واعتزام تنظيم الانتخابات القادمة في 20 مارس 2013. وبعد نيل برنامج الحكومة للفترة المتبقية ثقة المجلس الوطني التأسيسي، نحسب أن الظروف صارت مهيأة لإحداث نقلة نوعية في المشهد الوطني، تبدّد التردّد وتزرع الأمل.
وذلك بالبداية الفعلية في إنجاز المشاريع المُبرمجة، خاصة ما يتعلق منها بالتنمية الجهوية، والإسراع في بذل جهود أكبر لتوسيع مجال التشاور والمشاركة السياسية، لتكريس الحوار الوطني مع مختلف الأطراف، من أجل إعطاء رسالة ايجابية متأكدة لشعبنا في هذه المرحلة، ومن أجل تكامل الطاقات والجهود في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الجمّة التي نعدّها من أولوياتنا الوطنية. ومن أجل توفير القوّة السياسية اللازمة لضبط أمن البلاد في الداخل وعلى الحدود، ومكافحة الجريمة، وبسط سلطة الدولة، دون أيّ تراجع أو تضادّ مع مسار بناء النظام الديمقراطي والقطع مع منظومة الاستبداد والفساد.