هذا التأليف الجديد في عالم الرواية كان لا بدّ أن يصدر... ثمرة أينعت وحان قطافها، بعد ثورة الكرامة والحرية... تتويجا لايحاءات خطيرة بالمعنيين، استمتعنا بها رشفا ومزّا وعبّا، في روايات الأديب، القاص والروائي محمد يحيى على مدى السنين. «الجدار» رواية جديدة له حبلى بهموم المعذبين في الأرض... الكادحين (المزمّرين!!) وبارهاصات المخاض العسير للثورة الشعبية... بالتلميح تارة وبالتصريح طورا في مجموعته القصصية نداء الفجر وحوار في الظل وزمن الغياب وعشق الملاذ وفي رواياته: نوافذ السرداب وأحاديث النسيان ونفق الطوفان وأولاد الحومة في نسق تصاعدي مقنع بصدق ومدهش بفكر، من الأزيز والفحيح إلى اللمز والغليان... وصولا ب(أيها الناس) إلى «الليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس والقدر إذا استجاب»!! أسلوب... له وحده: «الجدار»... تعال وغص معي في أعماقه وتجاويفه... ليأخذك إلىعالم آخر يتحرك فيه الآدميون... الطيب منهم والخبيث... ذو النفس المطمئنة، والأخرى اللوّامة والثالثة الفاجرة، مع (الباندية) خلف سور سميك، وستفاجئك في كل سطر وفي كل منعطف صورة، بالاشارة أو بفاقع العبارة، صعاليك تتحرك... وتتنابز... تفلسف بمنطقها هي وبهذيان من سكنته الحمى، أو أرداه (الطمع في وسخ دار الدنيا)، ولا غرابة في أن تجد نفسك مع هذا الكاتب المطوي المولود في العاصمة، حيث نشأ وتعلم، وانت تعبر أزقة تربة الباي ونهج الباشا وباب الفلة وسوق العطارين وباب الأقواس وكأن هذا الفتى (بلدي ولد بلدي) ليصل معك الى الجبل الأحمر وبرج علي الرايس وسبخة السيجومي وحفرة ڤريش.
ولمَ لا... فقد أصر قبله الطاهر ڤيڤة المعتز بجذوره المنغرسة في تكرونة (المظيلة) على انتمائه الى الحاضرة وتمتع رئتيه ببخور البرمقلي وقل مثل ذلك عن البشير خريف مع «برق الليل» ثم «بلاّرة» بوحي من دمس غرفته وأقواس بيته في باب منارة. وحدّث في نسق مماثل عن «باب سويقة» لعبد القادر بلحاج نصر، ثم «رحمانة» و«باب العلوج» و«باب الفلة» لحسنين بن عمّو، والقائمة تطول. فكثير إذ زمن المحسوبين على (أولاد نانا)... جذورهم المباركة من أرحام (دادا) وبالنسبة إليهم جميعا (يبارك في ترابك يا تونس قداش اتدلّل وتجيب).
وقد نبّهنا محمد يحيى الى أننا في «الجدار» مع نص سردي قاموسه كلمات لا تعرف الصمت ولا الخوف، تسري مع همس لا يتوقف من نهر يخرج من رحم الارهاق، يغذيه رقراق الروافد الى أن ينهمر الفيض ويدك (الكل في الكل) ولا يلبث ان يولد ليكون في الموعد مع الصباح الجديد. وكأننا بالكاتب قد وُفق في بناء «سدّه» وفي تفجير غضب سور مدينته بلغة يدعوك الى بذل الجهد لتذوّقها، يوشيها بعبارات من قاموس (ناس زمان) أو من الحوار اليومي لأبناء الحارة الجوفية، فينحت لك متعة من المباني تتوّجها لذائذ المعاني... الخفية والواضحة في آن. ولا تلبث أن تبوح لك مع سقوط الجدار بأسرار الكوامن... فتفتت لك الغموض وتدني منك الأبعاد.
(شباب اليوم لا يعرف أن أسوار المدينة تفتح أبوابها بابا بابا، وأنها كانت مغلقة مصانة بأقفال حديدية وبسلاسل ثقيلة). والقلم بين أنامل محمد يحيى لا يبوح لك بسرّ بلاط الأزقة الذي يبدو لك رماديا. لأنك ستدرك من براعة لمساته وهمساته أنك زمنيا في لحظات الفجر الكاذب... قبل بزوغ الفجر الصادق، فإذا هي تشي ببعث جديد يذكرك بأن إرادة الحياة المنوطة بهمة البشر هي إرادة خالقهم وإنها ظل لمشيئته في الكون وأنه حقا: (لا بدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر). أقنعة وصور وهذيان مع (عمر صالح عطار الحومة) شبيه (عم علولو) عطار المنحنى بين الحفصية ونهج التريبونال. ويجمعنا المؤلف بثالوث عجيب غريب (راغب وشاغب وراسب) مع مرزوق والشبح الحائر والشيخ الذي يحاول أن يحزم أمره في السرّ بأمر من «فارعة» ف(أبواب المدينة تبحث عن موازينها والصورة فارغة عندما يطفح الكيل والشيخ (عامل روحو درويش يعيش) و(ويخرج العلم من روس الفكارن) و(سرّك عامر ياللّي تلقط في الڤعامر) و(التكروري ممنوع عليهم موش علينا) و(أين أشجار الفستق؟... في جنينة بنت الريّ!!) والشيخ حائر. فزوجته «فارعة» تسللت وأحكمت القبض عليه «فارعة بدأت القبض على المقود بسرعة... هي مساكة للنفوذ... هي بحقّ ذكية جدا وجميلة جدا (ربما تأكل الدنيا وتتسحّر بالآخرة).
فالطبّ الرعواني دخل الصراية... وأم قباقب تزحف هي الأخرى بحرية. لكن النار تحت الرماد والدوام ينقب الرخام. وفي سوق باب الرحبة وخلف باب السور مخاض عسير. هل استمعت الى نشرة الاخبار؟ الطقس في استقرار ولا شيء يذكر. ومن ذا الذي يقول: كان لا بدّ أن أتمرّد وكان لا بدّ أن يهوى الجدار من زمان. وإذا كنت قد اغتنمت فرصتك مع عشيقتك القديمة الجديدة... أفهم أن الحظ قد يتوقف فجأة في زحمة اكتظاظ المناقصات. أعطني حريتي اطلق يديّ.
المرحلية المتوّجة: ندّعي يا محمد يحيى بحكم التكامل الحتمي بين الباث والمتلقي أننا أدركنا مقاصدك كلها. ففي (زمن الغياب 1984 ) كتبت: «أيها الشعب أراك عصيّ الدمع! وتساءلت: ما فائدة أن يصرخ الانسان هنا أو هناك... فمه يصرخ وقدماه مغروستان في قاع الأرض... يتوقع انه حيّ يتحرك، ولكن كل شيء من حوله يخفق من الاخفاق أو من الخفقان؟ والغياب متواصل مع شريط الأنباء... غياب... غياب... غياب... القفز على العجلات المطاطية المحروقة والسيارات المقلوبة. محفظات الأطفال مبعثرة والأقدام تركض كأنها في سباق مع الظلمة».
وفي سنة 1990 دخلنا معك (نفق الطوفان) حيث «مسلسل الكرامة الذي تبثه التلفزة كل ليلة اثر نشرة الاخبار، لكن هناك مسلسلات لم تُبث بعد بل لم تُصور لحدّ الآن. انها تحتاج الى ممثلين مقتدرين ومخرجين أكفاء هي بحاجة الى «الكل في الكل» و«اليد في اليد» وبعدها يمكن لهذا المسلسل ان يجري فيه الدم». وهكذا تزدحم ارهاصاتك يا صديقي من أوت 1994 الى ماي 1996 الى مارس وديسمبر 2000 الى سبتمبر 2002... حتى افريل 2003... في (عشق الملاذ وفي مواسم خرساء). لما كشفت لنا عن البعض من مناقب شيخ المدينة والتمساح الكبير وسلطان القهر والهوان (والفداوي اللّي يجرح ويداوي)، وأكدت علىالريح العاصف والغبار القاصف والرمل الأصفر والصرصر... مع الوجوه الشباحية التائهة والأفواه العطشى وشخصيات صالح وفاطمة ورابح.
وأخيرا أقول لك: يا سي محمد شكرا. أمتعت وأرضيت وأشبعت ورويت بكل ما رويت. ولكن أسألك: ألم تكن على شيء من الخوف قلّ أو كثر؟ أم كانت (الحسبة محسوبة) لأن (سي المواطن) لم ينضج بعد للفهم ولكن تحاول... ثم لأن المستبدّ لا يقرأ لك (؟؟) تقول: (... وخليفة الفاهم... كان ما فهمش لا يجعلو باش فهم!) و(المشكلة هي هي، هذا الشيخ اعذروه... فثقافته هي السبب. فهو لا يتفاعل مع قراءات عديدة وهذا كل ما عنده!! لكنك تستدرك متفائلا: لأن سي المواطن لن تنطلي عليه الى الأبد فهو ملقح!!) حتى تصل بنا إلى انهيار «الجدار» باكتمال الصورة عبر أقاصيصك ورواياتك... بالسرد التاريخي من سنوات الجمر الى الاعتصام الأبهر وصولا الى النهاية.
انت يا سي محمد لا تكتب للنخبة رغم ثراء فسيفسائك اللغوية وبهلوانياتك في المباني ممتعة كثراء صورك النابضة بالحياة... تباعا في مجلة قصص ... ووصولا الى «الجدار» الذي تكلم ذات يوم كالطوفان الجارف.
وليتك يا محمد يحيى تخرج لنا أعمالك الكاملة معا وفي سفر واحد لكي تكتمل الصورة بقدوم (العجاج) وزحف أولاد باب اللّه... وقد تحققت نبوءاتك.