مرّةً أُخرى يُستَهْدَفُ الإبداعُ من خلال الاعتداء على المسرحيّ رجب المقري ويُستَهْدَفُ الإعلامُ من خلال الهجوم على قناة الحوار وتُستَهْدَفُ الحقوقُ والحريّات من خلال الاعتداء على الحرمات والممتلكات. مرّةً أُخرى تزمجر الأكثريّة الانتخابيّة في وجه الاحتجاج وتعتبره عنفًا وتُواصِلُ التسامُحَ مع العنف المُكشّر عن لِحِيِّهِ وسيوفه وسلاسله وقنابله المولوتوف في وجه مواطنين لا ذنب لهم إلاّ أنّهم يريدون أن يكونوا مواطنين لا رعايا!
لكأنّ العنف هو الإنجاز الحكوميّ الوحيد حتى الآن بل لكأنّه الشيء الوحيد الذي تمّ توزيعه بعدل على كافّة المواطنين، نسوةً ورجالاً وكادحين وعاطلين وسياسيّين ونقابيّين وحقوقيّين وأمنيّين وإداريّين وعلى رأسهم «يتامَى» هذه المرحلة: أهل التعليم والإعلام والفكر والأدب والفنّ والثقافة عمومًا.
السؤال الآن: هل يعود هذا العنف إلى بُعْدٍ من أبعاد الشخصيّة التونسيّة الحقيقيّة كان مكتومًا وانكشف؟! أم أنّه نتيجة من نتائج سياسة الأكثريّة الحاكمة وثمرة من ثمار شراكتها مع ممارسيه بوصفهم جزءًا من ثقافتها واستراتيجيّتها؟!
لن أهتمّ هنا بالجدل النظريّ الذي يفصّل أسباب العنف الاقتصاديّة والسيكولوجيّة إلخ.. فضلاً عن اعتباره جزءًا من بنية كلّ مجتمع إنسانيّ وأقصى طموح الإنسان أن يقوم بتأطيره وتحجيمه عن طريق ضوابط العيش المشترك.
هذا الجدل المهمّ في المطلق سرعان ما يُصبح جدلاً عقيمًا حين يتعلّق بقضيّة الحال. فليس الشعب التونسيّ مختلفًا عن غيره في جوهر بنيته الإنسانيّة والقول بغير ذلك هو انخراط في أطروحات عنصريّة ثبت تهافُتُها تاريخيًّا وعلميًّا.
الأهمّ في نظري هو الانتباه إلى أنّنا أمام ثقافة عُنْف يتمّ زرعُها في المجتمع على طريقة زرع الأعضاء! ولا فرق في النهاية بين أن يتمّ ذلك عن قصد وأن يتمّ دون وعي أو بسبب أخطاء في التقدير والتدبير. فالكارثة هي الكارثة.
لنتّفق منذ البداية على أنّ الثقافة المقصودة هنا هي مجموعة القيم التي تعبّر عن نفسها من خلال رموز وعلامات وسلوكات يعتبرها المجتمع مرآة له يرى فيها نفسه. أمّا العنف المقصود هنا فهو كسر هذه المرآة لتعويضها بأخرى غصبًا، أي باستعمال القوّة لفرض الرأي على الآخر المختلف بالاعتداء على حرمته الجسديّة والماديّة والمعنويّة. لو فكّكنا «ثقافة» الحكومة حتى الآن من خلال خطابها، دون تعميم ومع احترام الاستثناءات وحفظ المقامات، لرأينا أنّ الغالب عليها ثلاث سمات: الشيطنة والإرغام والتحصين. وهي السمات الغالبة على سلوك حلفائها الموضوعيّين في الشارع.
أمّا شيطنة الآخر فإنّ مظاهرها أكثر من أن تُحصى: بدايةً من جماعة الصفر فاصل! مرورًا بالفلول وواضعي العصا في العجلة! وصولاً إلى الكفّار والخونة!! وهي رسائل مضمونها الوحيد أنّ الآخر هو الجحيم، وأنّه «هومو ساكير»، وأنّه بلا حُرمة، وأنّ دمه ورزقه حلال!
أمّا الإرغام ومن مرادفاته الظلم والقهر، فإنّ من الصعب على الملاحظ الموضوعيّ عدمُ اعتباره نهجًا للحكم على الرغم من التشدّق بشعار التوافُق. ممّا أباح للسخرية أن تترجم هذا الشعار إلى صيغته على الأرض: التوافق يعني أنت وافق!
هذا الإرغام الحكوميّ لم يعد متخفّيًا ولم يعد حتى راغبًا في التخفّي بل أصبح مجاهرًا بنفسه، بدايةً من عبارات فليشربوا ماء البحر مرورًا بتنصيب الأقارب والموالين وصولاً إلى تحويل الخيارات الحضاريّة إلى مجرّد إملاءات. من ثمّ لم يعد إرغام الناس في الشارع على الانقياد إلى الجنّة بالسلاسل سوى ترجمة وفيّة لما يحدث في الحكومة.
وأمّا التحصين فالمقصود به النجاة من العقاب. وهي حصانة تمتّع بها كلّ ممارسي «العنف الرمزيّ» من أعضاء الحكومة، ممّا جعلهم يتحدّثون عن «الأبناء» و«الشركاء» إلخ.. وكأنّها رسائل مُوجّهة إلى حلفاء موضوعيّين في الشارع كي يمارسوا «العنف المادّي» في راحة بال كاملة! فهل يعود ذلك إلى الخلط بين الفقيه والسياسيّ؟ بين رجل الدولة المهموم بشجون القانون ورجل الدين المهتمّ بشؤون الشريعة؟
لا مناص من الاعتراف بأنّنا أمام ثقافة عُنف يحاول البعض زرعها من فوق ومن تحت! والأرجح أنّنا أمام الوجه والقفا وهما يتبادلان المواقع! وأن الفرق بسيط جدًّا بين ثقافة الغزوات وثقافة الإملاءات! والسؤال الآن إلى متى يستمرّ هذا الوضع؟ ومتى يستيقظ هؤلاء الذين يظنّون أنّهم مستفيدون من هذا العنف؟ ومتى ينتبهون إلى أنّهم واهمون؟