كيف تلقى الأكاديميّون التونسيون مبادرة الباجي قايد السبسي المعلن عنها يوم السبت الماضي، كيف كانت قراءتهم لمضامينها المتعدّدة. «الشروق» رصدت موقفي كل من الدكتور عبد الجليل بوقرّة، أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية والدكتورة رجاء بن سلامة الباحثة والكاتبة والمحلّلة النفسية التونسية.
الدكتور عبد الجليل بوقرّة (محلّل وكاتب) : «من الحريّة إلى الديمقراطية» إلى تكريس التعدّدية
«تعيش تونس منذ 14 جانفي 2011 مرحلة الانتقال من الحرية الى الديمقراطية، حيث لا نزال الى الآن نعيش فقط الحرّيات في مظاهر مختلفة ولم نحقق بعد الانتقال إلى الديمقراطية التي تفترض عدّة شروط من بينها، بل ولعلّ أهمها، شرط التعدّدية الحزبية وضمان التداول السلمي على الحكم وهذا التداول يقتضي وجود حزبين على الأقل أو ثلاثة أحزاب كبيرة من نفس الحجم وبنفس التمثيلية تقريبا.
هذا الشرط الأساسي هو الضامن الوحيد لعدم العودة الى نظام الحزب الواحد الذي عشناه في تونس على مدى أكثر من خمسين سنة. وأثبتت انتخابات 23 أكتوبر 2011 أن حركة النهضة لم تجد قوّة سياسية أخرى تعادلها في الحجم وقادرة على منافستها ومن ثمّة تأمين مبدإ التداول السلمي على الحكم رغم أن هذه الحركة لم تحصل إلاّ على ثقة مليون ونصف ناخب من جملة سبعة ملايين مرسّم بالقائمات الانتخابية وهو ما يعني أنّ عديد القوى الاجتماعية والسياسية. إمّا رافضة لبرنامج حركة النهضة أو متحفظة عليه لذلك من صالح المسار الديمقراطي في تونس وجود قوّة سياسية في حجم حركة النهضة.
وفي رأيي يبدو أن «نداء تونس» المعلن عنه رسميّا يوم السبت 16 جوان 2012 وحسب المؤشرات الأولية سيقوم بهذا الدور حيث توفر على البرنامج السياسي الواضح والأهداف المرحلية الدقيقة والأنصار من مختلف الجهات والأعمار والآفاق السياسية والعقائدية والزعيم الكاريزمي القادر على التوحيد والتوجيه وهو السيد الباجي قايد السبسي إلى ذلك أعتقد شخصيّا أنه من صالح الجميع بما في ذلك حركة النهضة أن لا تعرقل هذه المبادرة باستعمال وسائل غير مشروعة قانونيا وأخلاقيا أمّا الاختلاف حول الأفكار والبرامج فهو أمر مشروع بل وأكثر من مطلوب. لذلك فإنّ الذين أبدوا اعتراضهم على هذه المبادرة بحجّة تواجد شخصيات دستورية وتجمعية فإنّ ما يمكن أن أقوله على هذا الاعتراض هو أني لما قرأت نصوصهم سواء المكتوبة في الصحف أو على مواقع الانترنات فإني وجدتها لا تختلف على تلك النصوص التي كانت تدعو وتحرّض على اقصاء الاسلاميين من المشهد السياسي مع فارق شكلي وهو تعويض كلمة تجمّعي بكلمة اسلامي حتى خلنا أنفسنا نقرأ النصوص ذاتها، أيّ جوهريّا نفس ذلك الفكر الذي يدعو الى اقصاء الخصوم السياسيين دون أن يكونوا مورّطين في قضايا فساد وإفساد، لذلك أنا شخصيا من أنصار الاقصاء لمن أقصاه القضاء».
رجاء بن سلامة : المبادرة ستنجح متى توفر برنامج قريب من هموم الكادحين
أرى من حولي ومن مختلف الطبقات الاجتماعية تطلعا إلى هذه المبادرة ورغبة في الانخراط فيها. وأرى أن الكثير من العوامل تتضافر لجعلها بديلا حقيقيا عن ضعف المعارضة وتشرذمها، ومنافسا حقيقيا وضروريا للحزب الحاكم مستقبلا:
هذه المبادرة حزب، ولكنها تطمح إلى أن تكون جبهة انتخابية في الوقت نفسه. لست أدري إن كانت دعوة الأحزاب الصغرى للانصهار فيها واقعية الآن، لأن الانصهار يتطلب وقتا طويلا، وهو مكلف من الناحية النرجسية. لا نكلف السياسيين ما لا طاقة لهم به، لكن لا بد على الأقل من جبهة انتخابية عريضة حول هذا النداء، وحول شخصية مطلقه.
هذه المبادرة تقوم على فكرة إنقاذ الدولة المدنية والمكاسب الاجتماعية والسياسية المتحققة. وفكرة الإنقاذ هذه ليست هينة، لأننا رأينا كيف تعرضت مقومات الدولة الحديثة ومازالت تتعرض إلى المخاطر مع حكومة تمارس الخطاب المزدوج، ولا تطبق القانون، ومع حزب يسعى إلى الهيمنة على الدولة، ولم يقطع بعد مع إيديولوجيته الإخوانية.
هدف الإنقاذ غير كاف ولا يصنع برنامجا، ولذلك يمكن أن تنجح هذه المبادرة إن استطاعت أن تخاطب الجماهير الغاضبة على سياسة الحكومة وأن تعد برنامجا اجتماعيا قريبا من هموم الطبقات الكادحة، وموفرا لخطة واضحة للقضاء تدريجيا على البطالة. الحكومة الحالية كانت لها اختيارات ليبرالية رأسمالية واضحة، وبرامج تنموية شبه خاوية، ولذلك ننتظر من هذه المبادرة غير ذلك.
هذه المبادرة تحظى بثقة نخب البلاد، أو على الأقلّ بثقة قطاع كبير منها. ولها حظوظ في استمالة الجماهير لأسباب منها أن السيد الباجي يعرف كيف يخاطب الناس. له البلاغة السّياسيّة التي تصل إلى القلوب دون أن تكون ديماغوجية وشعبويّة ودون أن تعتمد على تهييج المشاعر الدّينيّة. تماما مثل بورقيبة. بورقيبة الذي يتنكّر له كارهو الدّولة والمجتمع اليوم.
وهناك مجموعة من المغالطات المروجة حول هذه المبادرة. أولاها المقارنة ضمنا بين تونس ومصر، بحيث يصبح الباجي قائد السبسي نظيرا لشفيق. وفي الحقيقة لا مجال للمقارنة بين ما يجري في تونس وما يجري في مصر. الباجي قايد السبسي رجل دولة وليس من «أزلام النّظام القديم»، وليس عسكريّا.
انتبهوا : ليس عسكريّا. ليس لنا مجلس عسكريّ في تونس يهدّد الدّيمقراطيّة. لكن لنا حزب إسلاميّ لم يقطع مع ماضيه اللاّديمقراطيّ، ولم ينفصل عن السّلفيّة وكلّ ما يهدّد الدّولة والمجتمع.
والمغالطة الثانية تتمثل في نسبة هذه المبادرة إلى التجمعيين. رغم أن من أطلقها يساريّون ونقابيّون لم يكونوا يوما في نظام بن علي، وتاريخهم معروف، منهم الطّيّب البكّوش، النّقابيّ والحقوقي والسّجين السّابق في زمن بورقيبة. ثم لنقارن بين ما فعلته حكومة السيد الباجي وهذه الحكومة الشرعية». في حكومة الباجي قايد السبسي أطلقت الهيئة المستقلّة للانتخابات، وصدرت مراسيم متطوّرة وديمقراطيّة. هذه المراسيم لا تريد النّهضة تفعيلها إلى اليوم-المرسوم المنظّم للإعلام مثلا- بحيث تعطي انطباعا بأنها لا تريد حرّية التّعبير ولا تريد الدّيمقراطية بل تريد الهيمنة والحكم. الأحداث الأخيرة المتعلقة بإنكار حرية الإبداع دليل على ذلك.
إضافة إلى هذا، فإن كل ما يقال اليوم عن ضرورة إقصاء التجمعيين مناف للديمقراطية. لا يجوز أخلاقيا وقانونيا وسياسيا حرمان أي فئة من التونسيين في ممارسة النشاط السياسي. من أجرم، يجب أن يحاسب. ومن أخطأ عليه أن يعتذر، وأنا أتمنى من التجمعيين أن يعتذروا. وأعتبر أن ان كل إنسان قادر على التغير نحو الأفضل. بل لعل الخلفية الدستورية والإصلاحية للتجمعيين تجعلهم أكثر قبولا للقيم الديمقراطية من الإسلاميين الذين لم يتخلصوا بعد من الحلم بتطبيق الشريعة أو الحلم بالمجتمع المثالي أو بالخلافة. فهذه كلها أفكار لا تنتج إلا مشاريع شمولية.