«تاريخ المعارضة التونسية من النشأة إلى الثورة: الأحزاب القوميّة واليساريّة والإسلاميّة»، كتاب جديد صدر للباحث التونسي توفيق المديني عن دار مسكيليانى للنشر والتوزيع في 588 صفحة من الحجم الكبير. وهو كما يشي بذلك عنوانه محاولة في تأريخ مسار المعارضة التونسيّة على اختلاف مشاربها الفكرية والإيديولوجية من لحظة النشأة والتشكّل حتى اندلاع الثورة وسقوط هرم النظام، بل إنّه يخاتلنا ويرصد في قسمه الأخير الصراعات والاختلافات التي نشأت بين مختلف الأحزاب قبل انتخابات 23 من أكتوبر وبعدها.
الكتاب اشتمل على أبواب رئيسية ثلاثة خصص المؤلّف أوّلها للمعارضة القوميّة وقسّمه إلى خمسة فصول حمل فصلها الأوّل عنوان: «الحركة اليوسفيّة في تونس» وخُصّص الفصل الثاني ل«حركة البعث» ودار الفصل الثالث على «حركة التجمّع القومي العربي» واهتم الكاتب في الفصل الرابع ب «حركة التحرير الشعبية العربية في تونس» وكان «الحزب الدستوري الديمقراطي في تونس» محلّ الاهتمام في الفصل الخامس. وقد خلص الباحث في هذا الباب إلى جملة من النتائج لعلّ أبرزها أنّ الحركات القوميّة في تونس اتبعت منهجاً ذاتوياً وغير واقعي، لم يأخذ بعين الاعتبار الإرث التاريخي، وكانت تنقصه الرؤية الواضحة لعالم اليوم في سياق احترام حقوق الإنسان، ومصائره، وتاريخه.
فالحركات القومية في تونس وفق رؤية المؤلّف، إما أنها انشدّت إلى الماضي، أو هربت إلى الأمام، ولذلك هيمن عليها الفكر القومي التقليدي والرومانسي، الذي ظل يخلط دائماً بين الهوية والأصل، علماً بأن الأصل والهوية شيئان مختلفان وليس شيئا واحداً. فالشد إلى الأصل كما يقول المرحوم إلياس مرقص ليس إلغاء للوجود، بل هو إلغاء للأمة: لأن مفهوم الأصل يحيل على العرق والشعب العريق، وعلى اللغة، وعلى الجوهر الثابت المتعالي على التاريخ، أو الوجود الماهوي، والرسالة الخالدة، وينتج وعياً ذاتياً منشداً نحو الماضي، ونحو التراث والثقافة التقليدية، وأوهاماً شتى حول العلاقة بين القومية والدين.
تصفية الحدود
ولايقف الباحث عند هذا الحد فحسب بل ينقد المشروع القومي العربي الذي يعتبر مثالا عند بعض الاتجاهات في نقطة أخرى تتعلّق بالديمقراطيّة فالمشروع القومي من وجهة نظر الكاتب لم يتأسس على مفهوم الديمقراطية بكل منطوياتها المعرفية والفكرية و السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي تتبدى في احترام حقوق الإنسان والمواطن، وفي تحرير الوطن كله من الاحتلال، وكل أشكال التبعية المباشرة وغير المباشرة، لأن الوطن العربي لا يستطيع أن يقرر مصيره دون الاستقلال الكامل والتحرر الشامل. والديمقراطية تعني أيضاً تصفية حدود التجزئة القطرية، حيث تقوم الإمبريالية الأمريكية وربيبتها الصهيونية بمحاولات حثيثة ومستمرة عبر المشروع الشرق أوسطي الجديد، والتطبيع، وتفجير الصراعات الطائفية والإثنية، إلى تحويل التقسيم الكياني للأقطار العربية إلى مشاريع أمم – كيانية أيضاً، في ظل هزيمة المشروع القومي العربي.
والديمقراطية التي هي شكل ممارسة الحرية في المجتمع المدني ودولة الحق والقانون، تقوم على أساس إقرار حق الأمة في الاستقلال والوحدة، والتقدم، بوصف الديمقراطية قوام الأمم الحديثة وشرط تقدمها الاقتصادي و الاجتماعي والحضاري، فمن دون ديمقراطية ليس ثمة أمة حديثة ولا وحدة قومية. لهذا السبب، فإن الحركات القومية التي اختزلت المشروع القومي العربي النهضوي في الأحزاب التي تتبنى إيديولوجية قومية أو مذهبا قومياً، وساوت بين المشروع القومي، والأحزاب القومية، لا سيما تلك التي وصلت إلى سدة الحكم، ونظرت إلى الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية والسياسية المختلفة: الإسلامية والماركسية والليبرالية التي تتجابه وتتقاطع في المجال السياسي و الثقافي للأمة على أنها ليست من الأمة، فكرّست بذلك رؤية حصرية وشمولية واحدية سائدة في الحركة السياسية العربية، وادّعت لنفسها احتكار حق تمثيل الأمة، والتحدث باسمها، كما يحتكر الإسلاميون مثلاً حق تمثيل الإسلام والتحدث باسمه، هذه الحركات منيت بهزيمة تاريخية عادلة، لأنها لم تكن ديمقراطية.
أمّا الباب الثاني فقد اهتمّ فيه الكاتب بالمعارضة اليسارية وجاء تحت عنوان «المعارضة اليساريّة الشيوعيّة التقليدية واليسار الجديد» وقسّمه إلى ستّة فصول هي: «المسألة الوطنية في وعي الحزب الشيوعي التونسي، الفصل الثاني: الحزب الشيوعي والانتقال إلى المعارضة الإصلاحية، الفصل الثالث: الحزب الشيوعي في ظل سلطة السابع من نوفمبر، الفصل الرابع: منظمات اليسار الجديد في تونس...، الفصل الخامس: حزب التجمع الاشتراكي التقدمي (الحزب الديمقراطي التقدمي حاليا)، الفصل السادس: حزب العمال الشيوعي التونسي.» وانتهى بعد أن قلّب النظر في تاريخ المعارضة اليسارية وبرامجها ومواقفها من القضايا الكبرى داخل تونس وخارجها إلى جملة من النتائج نذكر منها أنّ المعارضة اليسارية في تونس تعيش ، على اختلاف مكوناتها، من حركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي) إلى حزب التجمع الاشتراكي التقدمي، مروراً بحزب العمال الشيوعي التونسي غير المعترف به رسمياً في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، في أزمة عميقة ولهذه الأزمة أبعادها السياسية والاجتماعية والأيديولوجية. وعلى الرغم ممّا قامت به كل هذه الأحزاب من نشاطات سياسية كلٍّ من موقعه، وما قدّمته من تضحيات فإنّها لم تستطع أن تنجز أهدافها السياسية، ولاسيّما بناء ديمقراطية فعلية وحقيقية في تونس. فالحزب الشيوعي لم ينجز البديل التقدمي الديمقراطي في تونس الذي ظل يمجده طيلة تاريخه، والتجمع الاشتراكي التقدمي لم يحقق الإصلاح المنشود، وحزب العمال الشيوعي التونسي لم يقم بالثورة الوطنية الديمقراطية، و«الثورة الاشتراكية».
أحزاب نخب
وتؤكد التجربة السياسية والتاريخية في تونس أن المعارضة اليسارية بمختلف مكوناتها لم تستطع أن تجند قطاعاً واسعاً من المواطنين، وبالتالي أن تعبر عن إرادة طبقة أو تحالف طبقي شعبي. ويعود هذا من وجهة نظرنا إلى أن أحزاب المعارضة اليسارية في تونس كانت أحزاباً مدنية، في وقت كانت فيه المدينة أقلية بالنسبة إلى سائر الشعب التونسي. وأن هذه الأحزاب كانت أحزاب نخبة من المثقفين في مدينة تونس العاصمة والمدن الأخرى، وأنها لم تكن أحزاباً شعبية. ولأن المشاركين في هذه الأحزاب كانوا كذلك، وكانوا يعملون على هامش السلطة، فيدعون إلى المشاركة في الانتخابات، ويكتفون بالمطالبة بالإصلاحات، ظلوا بعيدين عن جماهير الشعب، التي هجرتهم.
لقد كانت الأحزاب اليسارية التونسية حسب الكاتب حائرة دائماً وسط الصراع الأيديولوجي العالمي، ومرتبكة دائماً في دوامة الحركة السياسية، وتحاول التوفيق في خطواتها السياسية بين مصالحها في البقاء، والسلطة والأيديولوجيا والبنية الاجتماعية المتخلفة، والدين. ولذلك كان الخط السياسي رجراجاً، وكان التقلب السياسي سمة بارزة. ولأن الأمر كان كذلك، كان مستحيلاً عليها أن تنجح أو تنتصر.
ومن اللافت للنظر في الواقع التونسي أن أحزاب المعارضة اليسارية في تونس قسمان، في ميدان التشديد على أهمية الأيديولوجيا، أولهما يشدد على أن الالتزام الأيديولوجي هو الأساس. وثانيهما، لا يرى التشديد على الأيديولوجيا ضرورياً، مثل التجمع الاشتراكي التقدمي والحزب الشيوعي. وعلى الرغم من ذلك، فإن الممارسة العملية، تثبت أن الذين يشددون على أهمية الأيديولوجيا نظرياً، لا يلتزمون بذلك في الممارسة العملية ولا يعطون الأيديولوجيا، حتى بعدها النظري.أمّا الباب الثالث والأخير من الكتاب فقد جاء في أكثر من 300 صفحة وخصّصه المؤلّف للمعارضة الإسلاميّة على اختلاف اتجاهاتها وإن كان عنوانه يوحي بأنّه يعنى باتجاه واحد منها «حركة النهضة الإسلاميّة من المعارضة إلى اختبار السلطة» وقد انقسم هذا الباب إلى ثلاثة عشر فصلا جاءت وفق الترتيب التالي: «الفصل الأول: إرهاصات ولادة الحركة الإسلامية، الفصل الثاني: ظهور الإسلاميين التقدميين مع اشتداد حركة الصراع الاجتماعي، الفصل الثالث: ظهور حركة الاتجاه الإسلامي وتطوّرها، الفصل الرابع: سلطة السابع من نوفمبر من التعايش إلى الصراع مع الحركة الإسلامية، الفصل الخامس: الثورة التونسية وتحديات المرحلة السلطة الانتقالية، الفصل السادس: إنشاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة.. الفصل السابع: صعود حركة النهضة الإسلامية إلى السلطة، الفصل الثامن: حركة النهضة وصعود السلفية المتشددة-حدود الالتقاء والاختلاف، الفصل التاسع: حركة النهضة أمام تحديات الانتقال من الثورة إلى بناء الدولة، الفصل العاشر: معركة الدستور الجديد معركة الهوية والمستقبل، الفصل الحادي عشر: نحو وفاق تاريخي بين «الإسلام الليبرالي» والعلمانية، الفصل الثاني عشر: حركة النهضة والتحديات الاقتصادية، الفصل الثالث عشر: حركة النهضة الإسلامية والعلاقة بالغرب.» وقد حاول الباحث في هذا الباب الاهتمام بالسياق التاريخي الذي ولّد حركة الاتجاه الإسلامي والتحوّلات التي شهدتها هذه الحركة والاختلافات التي كانت تعتمل في صلبها والتي أدّت إلى بروز اتجاه الإسلاميين التقدميين كما اهتم ببعض الحركات الإسلاميّة الأخرى مثل حزب التحرير ودرس ظروف نشأته في المشرق وتاريخ انتقاله إلى تونس ليقدّم لنا فكرة شاملة عن الحركات الإسلاميّة في تونس ومرجعياتها ومختلف تصوراتها ومواقفها من الأحداث الكبرى إضافة إلى التحوّلات نفسها التي شملت هذه المواقف مثل موقف حركة النهضة من مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني وهو موقف في حاجة إلى توضيح وردّ خاصة بعد ما أورده الكاتب في الصفحة 575 والتي ورد فيها ما يلي: « كشفت مصادر أكاديمية عربية وأمريكية في واشنطن أن زعيم تنظيم الإخوان المسلمين «حركة النهضة» في تونس،الشيخ راشد الغنوشي، قد حل ضيفاً في شهر ديسمبر 2011 على «معهد سياسات الشرق الأدنى» في العاصمة الأمريكية، المعروف بأنه «المعقل الفكري» للمحافظين الأميركيين الجدد وغلاة المتعصبين لإسرائيل والحركة الصهيونية في الولاياتالمتحدة.
وقالت هذه المصادر إن الشيخ راشد الغنوشي الذي كان ممنوعا طوال 20 عاما من دخول الولاياتالمتحدة على خلفية تصريحاته في عام 1991 دعما لصدام حسين وتهديداته باستهداف الولاياتالمتحدة، وصل إلى الولاياتالمتحدة بدعوة من مجموعة «الإيباك» (لجنة الشؤون العامة الأمريكية- الإسرائيلية) و«معهد سياسات الشرق الأدنى» ومراكز أخرى شبه حكومية بهدف «تقديم منظورات سياسية مستقبلية للباحثين وصانعي القرار في العاصمة الأميركية عن دور الإخوان المسلمين في تونس وشمال افريقيا والعالم العربي،وعلاقتهم بالولاياتالمتحدة في المستقبل، ورؤيتهم للصراع العربي الإسرائيلي».
تنصل
وكشف الباحث في معهد سياسات الشرق الأدنى، مارتن كريمر، لصحيفة «الحقيقة» أن الغنوشي «تنصل في جلسة خاصة من تصريحاته السابقة الداعمة لحماس وحكومتها في غزة، ومن موقفه الذي دعم فيه حكومة طالبان الأفغانية في مواجهة الولاياتالمتحدة، ولكن بعد أن رفض تسجيل حديثه»! وقال كريمر « عندما سألناه عن ذلك، قال إني لا أذكر تصريحات من هذا النوع، وعندها عرضنا له تسجيلا مصورا، فأسقط في يده»!.
على الصعيد نفسه، كشفت مجلة «ويكي ستاندارد» التابعة للمحافظين الجدد أن الغنوشي، وخلال جلسة مع باحثي المعهد أكد أن الدستور التونسي «لن يتضمن إشارات معادية لإسرائيل أوالصهيونية»، وأنه «لم يعد يتفق مع مقولة إيران وآية الله الخميني عن أن الولاياتالمتحدة هي الشيطان الأكبر». وبحسب مارتن كريمر، فإن الغنوشي وحركته أصبحا اليوم، بعد ثلاثة عقود من تبني الإسلام الجهادي المعادي للغرب، جزءا مما بات يسمى اليوم ب«الإسلام التركي- الأطلسي».
إنّ قيمة هذا الكتاب تكمن حسب رأينا في طابعه الشمولي وهو ما يجعله يقدّم فكرة ضافية للقراء التونسيين ولا سيما الشباب منهم بعد أن جعلتهم الدولة التسلطية التونسية خارج دائرة السياسة وهمومها لمدّة عقود ومن المهم جدّا أن تنضاف إلى مكتبتنا السياسية اليوم كتب أخرى في هذا المجال تصحّح ماورد في هذا الكتاب وتناقشه مناقشة علميّة فكريّة من شأنها أن تثري رصيدنا المعرفي الفكري بعيدا عن لغة العنف واحتكار الحقائق.