المقاول المكلف ببناء المعهد النموذجي بباجة تحول مؤخرا إلى مقر الولاية والتقى والي الجهة لا طلبا لزيادة في الاعتمادات المرصودة لبناء هذا المعلم التربوي ولا احتجاجا على وقفة احتجاجية نظمها العمال فتعطل البناء وتوقف حال المقاول... وإنما طلبا لليد العاملة...نعم المقاول لم يجد بنائين ولا «خلاطين» للعجين الإسمنتي ولا جرارين للرمل والحصى ولا «رباطين» للحديد. الخبر في ظاهره خير وبركة وأمن وأمان ما دامت باجة تشكو أزمة في اليد العاملة ولا تشكو أزمة بطالة...وفي باطن ذات الخبر حقيقة أكثر مرارة من النواة التي في باطن حبة المشمس وإن شابهت اللوز شكلا...فالحقيقة أن باجة لا يزال عدد العاطلين عن العمل فيها بالآلاف ولا أدل على ذلك من الوقفات الاحتجاجية التي تنظم من حين إلى آخر بمقر الولاية طلبا للشغل...
حديثنا هنا ليس عن حاملي الشهائد العليا ولا عمن غادروا مقاعد الدرس بعد «الباكالوريا» أو قبيلها بقليل وإنما عمن غادروا مقاعد الدرس قبل «السيزيام» و«النوفيام» أي قبل أن يبدأ الدرس أصلا وأتاهم الله بسطة في الجسم تكفي للبناء والخلط والجر وربط الحديد وهم من يبحث عنهم مقاولنا المسكين ولا يجدهم... هؤلاء أنعم الله عليهم عقب الثورة بنظام العمل ضمن الحضائر الظرفية فإذا بظروفهم الحياتية تشهد قفزة نسبية نحو الأفضل مقارنة بما كانوا عليه قبل الثورة من خصاصة وفقر وجوع...ونظام العمل ضمن الحضائر الظرفية وقفنا خلاله وفي أكثر من ولاية بتراب الجمهورية على أكثر من محطة فساد أدناها أموات يتقاضون أجورا وأقصاها أن الأحياء من عمال الحضائر الظرفية قد مات فيهم حب العمل أو بالأحرى قتلته فيهم أجرة شهرية يعانون مشقة الاصطفاف في طوابير طويلة للحصول عليها كل «رأس» شهر دون أن يأتوا أي عمل يذكر على امتداد بقية «أعضاء» هذا الشهر... الأكيد أن ذلك لا يهم كل عمال الحضائر بل يخص البعض منهم ونخص منهم أولئك الذين كانوا يلهثون قبل الثورة ونظام العمل المذكور وراء كل خيط يقودهم إلى حضيرة بناء...قد لا يكون ما ورد بالذكر دعوة إلى إلغاء منظومة العمل هذه على الأقل في هذا الظرف بالذات، وفي المقابل هو دعوة لكل من أنعم الله عليهم بهذه «اللقمة الباردة» أن يحسنوا دخلهم الشهري بالإقبال على الأعمال الموسمية والظرفية على غرار حضائر البناء فتتعلق هممهم بما يفوق أجرة يتقاضونها على عمل لا يأتونه أصلا.
من حق أي تونسي بعد الثورة أن ينعم بالحد الأدنى من العيش الكريم...ولكن من حق تونس بعد الثورة أن تنعم بالحد الأدنى من الإقبال على العمل والبناء فكلما ازداد عشاق «اللقمة الباردة» في بلادنا كلما ازداد طول المسافة التي تفصل التونسيين عن تحقيق أهداف ثورتهم ف 14 جانفي 2011 كان منطلقا لحضائر بناء نشارك فيها كلنا دون استثناء باسم الوطنية والانتماء...وما كان نفس التاريخ منطلقا لولائم المستفيد منها شعب لا يعمل ويشبع والضحية فيها تونس بأطفالها الذين لن يرثوا سوى ثقافة «اللقمة الباردة».