بعد أن استعرضنا أمس الأرضية الفكريّة ونشأة حركة النهضة ومؤتمراتها ، تقدّم «الشروق» اليوم لقرائها أسس الرؤية السياسيّة والخيارات الإستراتيجية لحزب حركة النهضة الّذي يشرع اليوم في أعمال مؤتمره التاسع. تقول أدبيات حركة النهضة إنّ «الوعي السياسي داخل الحركة شهد تطورا عميقا وذلك منذ تأسيسها وعلى امتداد مسارها النضالي، من خلال تأصيلها وتبنيها معاني الحداثة السياسية من ديمقراطية وعمل مدني سلمي وتمييز واضح بين المرجعية الدينية والمرجعية السياسية في الممارسة والخطاب. وحركة النهضة التي شهدت حوارات عديدة قبل الثورة وبعدها تتقدم للشعب التونسي من موقعها الجديد مستفيدة من كل تلك الحوارات باعتبارها حزبا وطنيا مفتوحا لكل التونسيين على أساس أهدافها التي أعلنتها منذ تأسيسها وعلى أساس سمتها وثقافتها الداخلية المشتركة بين المنتمين إليها.
وتتلخّص التوجّهات السياسيّة المرحليّة لحركة النهضة في العمل على مطالب الثورة واعتماد المنهج السّياسي التّوافقي ومطلب الحكم الرشيد ورؤية وطنية للتنمية المتوازنة والعادلة والعمل على مشروع للإصلاح الإداري بما يرسخ حياد الإدارة تجاه الأطراف السياسية المتنافسة وبما يفعل دور الإدارة في التنمية الشاملة ، إضافة إلى بلورة إجراءات العدالة الانتقالية في بعديها المتعلق منها بجبر الأضرار لضحايا النظام السابق واستمرار خطوات المحاسبة وفتح ملفات الفساد، حيث لا إمكان لمصالحة وطنية دون الأخذ بهذين الاجراءين وتجسيم سياسات الانفتاح على العالم في تنوعه الثقافي، وإعطاء الأولوية للحزام المغاربي فالعربي فالإسلامي فالمتوسّطي فالدّولي.
مع التأكيد على أنّ تموقع تونس في تقاطعات تاريخية وجغرافية ومن حيث التوازنات الدولية وشبكة المصالح المتداخلة يؤثر بشكل مباشر على سياسات الانفتاح التي يجب أن تراعي كل هذه العوامل.
ولخصّت الوثيقة الأساسيّة الّتي تتضمّن الأدبيات المركزيّة لحركة النهضة الّتي سيشتغل عليها المشاركون في المؤتمر التاسع خصائص الرؤية السياسية العامة في النقاط التالية:
البعد النضالي والجماهيري
النضالية قيمة وخاصية هامة ومبدئية عند حركة النهضة الّتي ترى نفسها كيانا منحازا إلى جمهور المستضعفين والمضطهدين في صراعهم مع قوى الحيف والاستغلال الاجتماعي، وكيانا مناهضا لكل أشكال الاستبداد السياسي، انه كيان يناصر العمل الحقوقي والنقابي ويسعى إلى التأثير في موازين القوى لتحقيق التوازن بين المجتمع والدولة، ويناضل من أجل دعم استقلالية المجتمع المدني. كما يحمل هموم الجماهير ويسعى إلى مقاومة قابلية الاستبداد في النفوس دفاعا عن الحقوق والحريات. فالنهضة في تنظيراتها هي كيان يتوجه إلى الجماهير ويحمل همومها ويهتم بقضاياها، فهي قاعدة المشروع وغايته ووسيلته عليها يراهن في التغيير. كما يهتم مشروع الحركة التغييري بكل فئات المجتمع وبمختلف دوائر التأثير فيه مثل النخب الفكرية والإعلامية والأكاديمية ودوائر رأس المال الوطني، ويراهن بصفة خاصة على الشباب والمرأة والعمال كرافعات أساسية للتغيير.
البعد الثقافي والحضاري
وتنطلق حركة النهضة من الهوية العربية الإسلامية وتؤمن بأن مسيرة الإصلاح المنشود لا تتم إلا من داخل هذه الهوية وتعزيزا لقيمها الكبرى وليس من خارجها ولا انقلابا عليها. فالهوية العربيّة الإسلاميّة من منظور النهضة تستوعب كل ميراث البلاد وهي مفتوحة على كل ما يحقق المنفعة للإنسان، وهي مازالت حية في ضمير الشعب رغم عصور الانحطاط الحضاري وحقب الاستبداد والتغريب الممنهج والمتواصل. والهوية هي عنصر وحدة في تاريخ البلاد منها يتمّ الاستلهام والتطوير، وليست مجرد شعار إنما هي مكون رئيسي للبلاد كوجود سياسي وانتماء حضاري ونفوذ في النظم التربوية والثقافية والسياسية والتشريعية.
البعد الوطني
ان عناية المسلم بإصلاح وطنه واجب ديني، لذلك فنحن كيان يحمل غيرة على الوطن ووحدته ومكاسبه، ويسعى إلى المحافظة على استقلال البلاد وتعزيز سيادتها والتأكيد على استكمال مقومات الاستقلال السياسي والثقافي والاقتصادي. وما تحقق يحتاج إلى المزيد من الجهود حتى يتعزز ويُحمى من أخطار التبعية والارتهان للقوى الدولية. ونحن بقدر غيرتنا على البلاد نعتبر ما تحقق من مكاسب في ظل الدولة الوطنية /القطرية إنما هو حصيلة جهود أبناء تونس وكوادرها وطلائعها السياسية والاجتماعية، فلقد كان تاريخ بلادنا حافلا بالنضال ضد الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والتزييف الثقافي. ولقد دفع أبناء تونس الكثير من التضحيات من أجل التحرر الوطني وضمان الحق في الحرية والعدالة والعيش الكريم.
ورغم واقع التجزئة يظل استكمال مكاسب الدولة القطرية في اتجاه إصلاحها وتنميتها هدفا وطنيا حتى تتهيأ شروط التكامل والوحدة للحد من سياسات التبعية. كما نعتبر أن الصراعات الداخلية والتنافسية السياسية ومعارضة التيارات لبعضها البعض ومعارضة سياسات الحكومات المتعاقبة ما ينبغي مطلقا أن يكون على حساب المبادئ الوطنية العليا واستقلال الوطن وسيادته ومصالح البلاد ووحدتها.
الديمقراطية وحقوق الإنسان
تتمسك حركة النهضة بالديمقراطية كإطار للعملية السياسية ولإدارة وحل الخلافات بين الأطراف الاجتماعية والسياسية وكآلية للتداول السلمي على السلطة «فليس في الإسلام عند التأمل في تعاليمه ومقاصده وتجربة تطبيقه ما يمنع الترتيبات التي جاء بها النظام الديمقراطي»، كما تؤمن أنه لا ديمقراطية بدون احترام التعددية الفكرية والسياسية والتداول على السلطة واستقلال القضاء وحرية التعبير والتنظيم واحترام سيادة الشعب وحقه في اختيار من يمثله ويحكمه عن طريق الانتخاب الحر النزيه. كما تسعى الحركة إلى تكريس احترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية وضمان حرياته الأساسية واعتبار ما ورد في المعاهدات والمواثيق الدولية كسبا بشريا وتطورا هاما قاد إلى الاعتراف بهوية إنسانية مشتركة بين كل الناس مستعلية على كل ضروب التمايز والاختلاف في اللون أو العقيدة أو الجنس أو الوضع الاجتماعي.
العدالة الاجتماعية
العدالة الاجتماعية مكون أساسي في مشروع الحركة بل هي إحدى الركائز الهامة في تصورها وخاصة في ظل تفشي ظاهرة البطالة والتهميش واختلال التوازن بين الجهات. وشرط تحقق العدالة الاجتماعية بناء اقتصاد وطني قوي مندمج يعتمد أساسا على إمكانيات البلاد ويحقق الاكتفاء الذاتي وسد الحاجات الأساسية ويقيم التوازن بين الجهات ويسهم في تحقيق التكامل والاندماج مغاربيا وعربيا وإسلاميا.
البعد المجتمعي: المرأة والأسرة
النهوض بواقع المرأة وتأكيد دورها الإيجابي في الساحة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وذلك حتى تسهم بفاعلية في تنمية المجتمع بمنأى عن آثار الانحطاط والاستلاب وصون كرامتها عن مظاهر الميوعة والتفسخ وتحويل الاهتمام والتمركز من الذات والجسد إلى الفعالية الإنسانية والاجتماعية لأن الاستخلاف في تصور النهضة يشمل الرجل والمرأة على حد سواء، كما تدعو الحركة إلى حفظ كيان الأسرة قوام المجتمع والعمل على أن تقوم العلاقات داخلها على المودة والرحمة والتكامل والاحترام وتقديس الرباط الزوجي في واقع تميّز بالانصراف عن الزواج وكثرة الطلاق وتزايد عمليات الإجهاض والعلاقات المفتوحة بين الجنسين وتدني نسبة النمو الديمغرافي إلى درجات تهدد بالعجز عن التجدد وتنامي الشيخوخة.
البعد القيمي: التربية والالتزام الأخلاقي
تولي حركة النهضة للتربية والالتزام الأخلاقي مكانة متميزة في السلوك الفردي وفي مختلف المناشط بل تدعو وتسعى إلى حضور الأخلاق في كل مجالات تنظيم الحياة من التوجيه الفردي إلى العلاقات الاقتصادية إلى الرؤية السياسية، فكل هذه المجالات تحتاج في تصور الحركة إلى الأخلاق بل إن فلسفة الاقتصاد اليوم وكذلك السياسة في أشد حاجة إلى البعد الأخلاقي والإنساني. وتقول حركة النهضة إنّها تسعى أيضا إلى إعادة تشكيل السلوك الشخصي والاجتماعي العام بما يتوافق مع الأخلاق الإسلامية باعتبارها قيما معيارية تتدخل في تقويم كل تصرفات الإنسان بداية مما تعلق بالتعامل مع الآخرين من الناس إلى التعامل مع البيئة الطبيعية.
مساندة قضايا التحرر والوحدة
تساند حركة النهضة كل الشعوب في قضايا التحرر الوطني وحقها في الاستقلال ومقاومة التدخل الأجنبي وترفض الحلول غير العادلة وخاصّة في فلسطين و تدعو إلى تحريرها ومقاومة التطبيع وتدعم كل محاولات الوحدة مغاربيا وعربيا وإسلاميا مع التأكيد على العلاقة الوطيدة بين معارك الهوية والديمقراطية والوحدة وتحرير فلسطين.