1 مرّت بنا هذه الأيام ذكرى قيام أول جمهورية بعد حكم ملكيّ استمرّ قرونا.فتونس لم تعرف منذ الفتح الإسلامي سوى حكم الملوك، يعيّنون عليها أو يتوارثونها . وكان آخرهم البايات وقد سلكوا نفس النّظم الملكية، إذ أحاطوا أنفسهم بمظاهر التّرف والقوّة وعدّوا الرّعيّة أدنى طبقة منهم ومدينة لهم بالطّاعة، وساعدهم علماء البلاط بالفتاوى المساندة وخطباء المساجد بأدعية التّأييد .وكان يكفي أن يتظاهر الباي أمام النّاس بالتّقوى حتى يحسبونه تقيّا بالفعل ويتغاضون عن آثامه، ويكفي أن يوزّع عليهم العطايا أحيانا حتى يصفوه بالكريم ناسين أن عطاياه هي من أموالهم .
لم يكن بايات تونس بدعا بين ملوك زمانهم عندما جمعوا من حولهم المتملّقين والمدّاحين وأورثوا لغتنا القصائد المدحيّة الرّكيكة وألقاب التّبجيل والتّعظيم الخالية من المعنى وإن كان لها طنين ورنين .أولئك كانوا ملوكا ولم يدّعوا أنهم جمهوريّون أو ديموقراطيّون .
2
ثمّ أعلنت الجمهورية ولم يكن للنّاس بها عهد . اختارها نوّاب الشّعب وفي نيّتهم البحث عن العدالة، وأن لا يكون لأحد فضل على غيره إلا بالعمل الصّالح. هذا التّغيير في نظام الحكم يستدعي إحداث علاقات جديدة بين الحاكم والمحكوم لم يألفها النّاس، إذ كان الحاكم يتصرّف في البلاد وكأنّها ضيعته، ومع الأهالي كأنّهم موظّفوه أو عملته . أمّا المحكوم فكان يتوارى من وجه حاكمه أو يخادعه للتّخفّف من رقابته . وحين جاءت الجمهورية حاولت تغيير النظرة إلى اعتبار الحكم وظيفة تكليف لا تشريف، واعتبار المواطن مسؤولا عن تنمية الوطن والدّفاع عنه .
هل تحقّق ذلك في أيام بورقيبة أوّل رئيس للجمهوريّة التّونسية؟ نفحص سيرة الرّجل فنراه قضى نصف عهده في بناء الدّولة وإصلاح المجتمع وتوحيده، ثمّ ما لبث أن زاغ عن كلّ ذلك وانقلب حاكما بأمره «هو الدّولة، والدّولة هو»، حتّى لم يبق من الجمهورية إلا اسمها وعوّضها نظام هجين لو نعطيه اسم «جملوكية « لكان أولى وأنسب.
3
لم يعلّمنا رئيس الجمهوريّة الأوّل أنّ الشّعب هو مصدر السّلطة وأنّ الحاكم خادم له ومنفّذ لأوامره، بل علّمنا أنّه هو كلّ شيء، وأنّ شعبنا كان هباء منثورا هو من جمع شتاته حتى صار شيئا مذكورا . علّمنا الخوف من الدّولة ومن عصاها الغليظة، حتى صدق فيه قول الشاعر:» يا من رأى سمكا غدا تمساحا». ثمّ انتهى بتنصيب نفسه رئيسا مدى الحياة .
تدنّت أحوال الجمهورية آنذاك وخاف النّاس، فاغتنم ضابط من العسكر الفرصة ونصّب نفسه بديلا للرئيس العجوز مع وعود كثيرة بالدّيموقراطية والحريّة . سار في أول أمره سيرة انفتاح وتحرّر حتّى اطمأنّ إليه النّاس، وجرّبوا استعمال حريتهم، فأخطأوا وأصابوا، ولكنّ هذه الفترة لم تطل عادت بعدها العصا الغليظة للظّهور. سريعا ما أدرك الرّجل – وهو الاستخباراتي التّكوين أنّ الشّعب التّونسي قد تأصّل فيه الخوف من هيبة الدّولة، وأنّه تحمّل قهر بورقيبة بشبه رضى، حتّى انساق يوما فأمضى له صكّ الرّئاسة الأبديّة رغم عجزه عن القيادة البادي للعيان. فانقلب هذا الجديد إلى طاغية يشتّت المعارضين ويكمّم الصّحافة ويصطنع أحزابا موالية، محيطا نفسه بالمنافقين والمرتشين وتجّار الصّفقات المشبوهة، فوصفت تونس بداية بالدولة الفاسدة و الدكتاتورية، ثمّ بالبانديتورية ,وأخيرا وصفتها صحف غربية بالدّولة المافيوزية .
4
أمّا اليوم فنحن في جمهورية انتقالية غائمة الشكل والمحتوى، نبتت من غير سند شعبيّ متين، لا صلاحيات مقنّنة لديها ولا وضوح رؤية، رؤوسها الثلاثة تسير بلا انسجام، ولا إصغاء إلى الرّأي العامّ وهو ضروريّ في ظلّ حكم جمهوريّ. بل هي - رغم هشاشتها و «بوجاديتها» - تتناسى منطق الدّولة ولا تحتكم إلا لرأي دوائرها الحزبية الضيّقة، وهذه بداية الانزلاق.
فهل نحن سائرون نحو جملوكية ثالثة؟ ألا يجب التصدّي لهذه الدورة الجديدة من الدكتاتورية؟ قد لا يكفي الكلام...وإليكم المثال: اشتكى إلى رئيس مصرالسابق وزراؤه من اشتداد نقد الصّحافة لأدائهم فأجابهم : « مالكم مخضوضين كده ؟ سيبوهم يقولوا ويكتبوا وانتو افعلوا اللي تريدوا». ولكنّ الجميع يعرف النتيجة.