الاستاذ عبد الباري عطوان... مازال هو نفسه... يأبى أن يتغير.. او يغيّر «موقعه» على «خط المواجهة» مع الاستبداد والدكتاتورية وايضا مع التدخل الخارجي والاستعمار الاجنبي... المعادلة بالنسبة اليه واضحة: هذا لا يبرر ذاك.. وذاك لا «يشرّع» هذا.. يحيلك الحديث مع عبد الباري، الاعلامي العربي البارز الذي صنّف ذات يوم من أبرز 100 اعلامي في العالم، الى مواضيع وعناوين شتى... «يجوب» بك في ثناياها باحثا لك عن اجابة تبدد عنك «وجع» اللحظة.. و«لحظة الوجع».. لكنك قد لا تجد صعوبة كبيرة لتدرك ان الرجل يعيش حالة من الحيرة التي «تستبد» به بين فينة وأخرى جرّاء ما تواجهه الامة... من محن... وما تدفعه من ثمن.. حيرة الرجل تجعله يصارحك بشيء من الألم بما يتعرض له من استهداف وتزوير للزج باسمه في صراع ايديولوجي... في تونس!! بدا الرجل فعلا، في غاية الحيرة والحزن ازاء ما يقوم به البعض ضده في تونس هذه التي كان من الاوائل الذين «استماتوا» من أجل تسمية ثورتها.. ب«ثورة الكرامة».. لكنه حاول أن «يقاوم» هذا الحزن والألم ب«أمل» كبير في نجاح هذه الثورة وفي تحقيق أهدافها... ... في هذا اللقاء تحدّث «عبد الباري» بإسهاب عن الأزمة السورية وتوقف عند سيناريوهاتها.. كما أجاب بصراحة عن أسئلة ومواضيع شائكة طرحتها عليه «الشروق» في الحوار التالي: لنبدأ أستاذ عبد الباري بالازمة السورية... كيف تقرأ وتحلل مآلات هذه الازمة وسيناريوهاتها بعد مرور نحو عام ونصف العام.. وما هي برأيك المخاطر المحتملة؟ من الواضح ان الازمة تتجه نحو مزيد من التعقيد.. اي نحو اطالة أمد الحرب الدائرة الآن... وهذا يعني المزيد من القتل والمزيد من سفك الدماء... المعارضة غير قادرة حتى الآن على حسم الأمور لصالحها... والنظام غير قادر الى حد الآن على السيطرة على الوضع... ما أخشاه اليوم بالخصوص هو ان تتعرض سوريا الى التقسيم.
كيف؟.. وما الذي يجعلك تخشى مثل هذه الفرضية؟
المسألة في اعتقادي قد لا تختلف عما حصل للعراق.. ففي هذا البلد هناك اليوم دولة كردية تتبلور وقد يتم اعلان استقلالها في أية لحظة.. وهناك دولة شيعية وأخرى سنية على أسس عرقية وطائفية... اليوم هناك حديث متزايد عن تقسيم سوريا الى 5 دول أو لإحياء مشروع الانتداب الفرنسي سنة 1934 لتقسيم سوريا الى خمس دول.. اي دولة في حلب للسنّة وأخرى في دمشق وثالثة في جبل الدروز ورابعة علوية في اللاذقية وطرطوس وخامسة للأكراد في الشمال... ويبدو ان هناك من يريد احياء هذا التقسيم مجددا... في بداية الحرب على العراق خرج علينا برنار لويس المفكر اليهودي الصهيوني المعروف بقولته إن العراق دولة مصطنعة ويجب اعادة تركيبها وتقسيمها... ولا نستغرب ان يكون هذا المفهوم بصدد التطبيق في سوريا... الشعب السوري الذي أصرّ على وحدة ترابه الوطني في زمن الانتداب هو الذي أحبط مشروع التقسيم المذكور.. ولا نستغرب ولا نستبعد من خلال ثقتنا في هذا الشعب ووطنيته أن يتصدى لمشروع التفتيت لقد قطعوا لبنان عن سوريا لإقامة دولة للمسيحيين وليس غريبا ان يحاولوا تطبيق الشيء نفسه للأقليات الاخرى.. هم لا يريدون دولا قوية موحدة متماسكة محيطة بإسرائيل.. هذا هو عنوان المرحلة الحالية: يجب تمزيق العرب واشغالهم في حروب طائفية وأهلية... وهذا ما يحدث في سوريا والعراق حاليا... وقد يمتد الى لبنان ومنطقة الخليج بما فيها السعودية.
ما تقوله أستاذ عبد الباري هنا ينسف مقولة ما يسمى «الربيع العربي»... التي لا يزال يهلل لها الغرب والكثير من العرب... فهل تريد ان تقول إن هذا «الربيع» الموعود قد تم الانحراف به عن مساره وهدفه الحقيقي؟
الربيع العرب او الثورات العربية هدف مشروع وحتمي لوضع حد للظلم وسحق كرامة الانسان العربي من قبل أنظمة دكتاتورية لكن هناك محاولات غربية متواصلة لاستخدام هذا الربيع المشروع والمبرر لحرف الثورات وتوظيفها لخدمة مصالح ومخططات تهدف الى تفتيت المنطقة... وهنا مصدر الخطر الذي يجب ان ننتبه اليه.. والانظمة الدكتاتورية تتحمل المسؤولية الكبرى لأنها لم تكن على درجة من الوعي للقيام بإصلاحات لتفويت الفرصة على هذا المخطط الجهنمي الخبيث... منذ ان قال طوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الاسبق وأحد أبرز مخططي المحافظين الجدد ومستشار رئيسي للكيان الاسرائيلي بأن «التغيير الذي نراه في الوطن العربي وبالتحديد بعد ثورة تونس ومصر يجب ان نتحكم فيه ونوظفه لمصلحتنا»... بعد ذلك بدأنا نرى هذا التدخل في أبشع صوره في ليبيا...لماذا لم نسمع مطلقا بأصدقاء غزة او فلسطين او العراق.. أصدقاء مليون عراقي ذبحوا على أيدي القوات الأمريكية؟.. يعني قبل أقل من 3 أعوام كانت أمريكا تسأل لماذا يكرهوننا؟.. وكان شغلها الشاغل البحث عن اجابة لهذا السؤال... وأنفقت المليارات من أجل تحسين صورتها في المنطقة... الآن السؤال الذي يطرح كيف يتحول هذا الكره الى حب متيم لأمريكا وننسى جرائمها في العراق... فماذا حدث وجعل أمريكا تسعى وتصور نفسها على أنها حامية للديمقراطية.. غزة مازالت تقصف والأخطر من ذلك أننا ازاء تفتيت المنطقة.
الآن هناك مؤامرة اعلامية عربية غير مسبوقة لتحسين الوجه الامريكي البشع... اليوم نحن نفتت منطقتنا بأيد عربية... اليوم نحن نذبح شعوبنا بأيد عربية.. والكل مسؤول ولا نستثني أحدا..نحن ضحية اعلام عربي مضلل.. للأسف ننفق مليارات الدولارات من اجل عملية تضليل غير مسبوقة.. أنا أمضيت كل حياتي ضد كل الانظمة الدكتاتورية الفاسدة ولابد من تغييرها لكن علينا ان نوجد البديل الوطني المتمسك بالثوابت وألا ننخدع ببدائل مزورة ومضللة ومرتبطة بمشاريع غربية تحت مسميات شتى... الغرب لا يريد لنا الديمقراطية والحرية.. الغرب يريد نفطنا وأموالنا ويريد اسرائيل قوية على حساب ضعفنا وعلينا ان ننتبه الى ذلك وألا ننخدع.
أشرت الى البديل الوطني.. فما هي برأيك فرص ايجاد هذا البديل.. ثم هل يعني ذلك ان البديل الذي أفرزته الثورات الشعبية الاخيرة قد فشل؟
أنا مع البديل الوطني الذي يأتي من خلال صناديق الاقتراع بغض النظر عن كونه اسلاميا او ليبراليا.. يجب ان نحترم ما تأتي به صناديق الاقتراع وان نحاسب هذه الانظمة التي تأتي من خلال صناديق الاقتراع وعلى مدى التزامها بالثوابت وتصرفها في الثروات.. المحاسبة هي المعيار.. يجب ان نحترم ارادة الشعب.. واعتقد ان بوصلة الشعب لن تخيب.. والشعب على درجة عالية من الذكاء ولا ينخدع بالشعارات والأقوال ويجب ان ننتظر.. والتجربة العملية هي التي ستكشف معادن الجميع. ما يحزّ في نفسي ويؤسفني ان بعض الجهات نسبت إليّ أقوالا وزكّت تصريحات باسمي وزوّرتها في مواقع التواصل الاجتماعي وفي تونس للأسف أرادوا استغلال اسمي للزج بي في صراع بين اسلاميين وليبراليين وقالوا بأنني عارضت الاسلاميين.. وهذا غير صحيح.. أنا محب لتونس ومصر وأحترم خيارات شعبيهما.. وأنا في النهاية أثق في الشعب التونسي الذي لن يسمح بذلك.. هذا شعب عظيم ولا يمكن ان ينخدع بشعارات مضللة.. وأنا محب لتونس.. نسبوا الي تصريحات بأن الانسان التونسي والمصري يبيع صوته لأنه فقير.. هذا عيب.. أنا لا يمكن ان انحدر الى هذا المستوى الهابط.. وأرجو ان يكف هؤلاء.. وهذا يكشف انهم خطر على الامة... تونس الثورة يجب ان تكون مختلفة.. هذه أساليب الحكم البائد.. وكنا اعتقدنا ان هذه الأساليب توقفت بعد سقوط النظام السابق.
في هذه الحالة.. كيف تحكم على التجربة التونسية.. وما هو تقييمك لنتائج ثورة 14 جانفي.. أسألك هنا كمراقب ومتابع «وفي» لما يحدث ببلدنا؟
أنا أضع يدي على قلبي وأنا أتابع ما يجري في تونس.. هناك من يريد لها ان تتخلى عن بعض ثوابتها وان تتنازل عن شموخها وكبريائها.. تونس عاشت دائما مرتفعة عن طلب المساعدات المالية المشروطة.. الشعب التونسي استطاع ان يقدّم تجربة فريدة من نوعها في التعايش والكرامة والانفة.. وآمل أن يستمر هذا الشعب في هذا الطريق... أمريكا لا يمكن ان تريد الخير لتونس ولا لأي دولة عربية ولا يمكن ان تقدّم لها مساعدة الا اذا كانت مشروطة بحماية المصالح الأمريكية.