(3 3) رغم توقفي المسهب في ثلاث محطات عند هذا الديوان إلا أن الحديث عنه لم يستكمل، فتجربة الشاعر فيه تجربة أفادت من فنون أخرى من السرد إلى المرئي، وربما كان وجود الشاعر مديرا لمكتب احدى الفضائيات العربية ببغداد منذ عدة سنوات قد أفاده ولذا صار يستعمل مصطلحاتها غير خائف وباللغة الانقليزية التي يجري تداول المصطلحات بها.
كانت ستينات القرن الماضي قد انفتحت على آفاق لم يكن من سبقهم يجرؤ عليها مثل «القصيدة الالكترونية» عند عادل فاخوري (لبنان) والقصيدة الميكانيكية عند فاضل عزاوي وشعراء آخرين (العراق) وكذلك الافادة من تجارب جيل «الهيبيز» ومدوناتهم.
ولكن سنوات الفضائيات والهاتف المحمول والفاكس ثم الأنترنيت والمواقع الاجتماعية جاءت معها بجديدها الذي ما كان يخطر ببال. لذا لم يكن خطابه للجواهري المعروف بطاقيته الكردية المزركشة وقصائده التي لم تتخلّ عن العمود خطابا متعجلا عندما يقول له: (ألم يهدأ «تسافد» الأوزان تحت طاقيتك العفيفة؟
...... إذن، دعنا نركن «عمود» الشعر بدائرة «الآثار» لعلك ترتاح ولو لموت واحد؟). جواد الحطاب يرى أن مكان عمود الشعر هو دائرة الآثار وبهذا هو بشير لحداثات آتية. وأعود إلى مسألة «التناص» التي نرى الشاعر «مغرما» بها في إحالات أخرى مثل قصيدة «زيف» التي يشير إلى أنها مشتركة بينه وبين «مارلو»، وكذا الأمر مع قصيدة «زيادة» التي يذكر انها مشتركة بينه وبين «أوكتافيو باث» وفاتنا أن نذكر بأن هذه القصائد القصار ضمتها قصيدة واحدة عنوانها «أحد عشر كوكبا». وهي قصائد بالغة التكثيف لكن الجرح العراقي الواحد يجمعها، لنقرأ احداها فقط للتدليل والحاملة عنوان «للتأكد فقط»: (أمس اتكأت على كتف الوطن وتساءلت: ما الذي نفعله بالقنابل الفائضة عن حاجة قتلنا؟!). وجواد الحطاب أيضا مغرم بأهداء بعض قصائد ديوانه لعدد من أصدقائه، أو أنه يكتبها مباشرة عن أحدهم مثل قصيدة «البصير» المهداة للشاعر الراحل يوسف الصايغ، كما يهدي قصيدة أخرى إلى (عبد الرضا علي وإلى حاتم الصكر بشكل ما) وهما ناقدان عراقيان كبيران استقر بهما المنفى الأول في بريطانيا والثاني في أمريكا، ويهدي قصيدة ثالثة إلى الشاعر فضل خلف جبر ورابعة إلى الشاعر عبد الرزاق الربيعي وخاصة إلى الناقد الفنان فاروق يوسف. من القصائد التي أحسستها قصيدة «تواريخ» وهي من «رصيد» حصاده في مشاركته مجندا بالحرب العراقية الايرانية، وهذا نصها: (في سنة الحرب الأولى قررت أن أزرع أصابعي في كل حفرة أراها قلت: غدا لا بد أن تمطر السماء وتورق الأصابع أزهارا في سنة الحرب الثانية ارتأيت أن أزرع أصابع كف واحدة فالثانية أحتاجها لحلاقة ذقني وأداء التحيات مع تدفق سنوات الحرب عليّ قلت: أدفن نفسي في أقرب موضع وأنام كالقتيل ولكن، لم يتح لي ذلك فقد أمطرت السماء قنابل وأورقت أصابع الشهداء بتربة قلبي علامات استفهام) لعل هذه القصيدة على قصرها فهي مجرد لقطة من لقطات تتعاقب في ذاكرة المحاربين على الجبهة، ولكنها لقطة تقول ما يقوله كتاب كامل. وفي الديوان قصيدة عن مادلين أولبرايت وزيرة خارجية أمريكا التي استهانت بموت ألوف الأطفال العراقيين نتيجة الحصار ويسميها «الحيزبون» وهو اللقب الذي أطلقه عليها العراقيون ومما ورد في هذه القصيدة قول الشاعر: (كل سنتمتر مربع في كفها ظلمات وقتل اسألوا دم لوركا هي من وضع السيف في كف قاتل «بوشكين» هي من خضّبت «سانتياغو» بأصابع «فيكتور جارا» هي من ملأت بالرصاص مسدس «حاوي» وهي من قتلت تقتل الآن مليون طفل عراقي) وتكون خاتمة القصيدة هكذا: (أهلنا يسقطون وقوفا ولا ينحنون سوى لالتقاط حجر). في الجزء الثاني من الديوان المعنون «استغاثة الأعزل» يجوب الشاعر أرجاء أخرى من المحنة العراقية فيتذكر أصدقاءه الشعراء الذين سلّمتهم المحنة إلى المنافي، كما يتذكر مأساة ملجأ العامرية في قصيدة «كفّارة بابل»، وفي قصيدة بعنوان «كم تغضن قلب العراق» هناك قصيدة بعنوان «رامسفيلد» أحد كبار قتلة الشعب العراقي، يقول له: (أنا لي وطن في وطني فهل لك في وطني وطن؟) وهناك ثلاثة أسطر من علامات التعجب حتى يقول له: (سنكنسكم) أيها الأمريكان الغزاة. ويقول في تواصل تألق حزنه: (بلادي بلادي ليس لديها فرع آخر كي أتركها للأمريكان) أو قوله: (بلادي بلادي حتى لو كان لديها فرع آخر لن أتركها للأمريكان) من قصيدة الهمرات ومن بين النقاد الذين احتفوا بالديوان والتي أوردت مقاطع لستة وثلاثين منهم نذكر: ياسين النصير وحاتم الصكر وبشرى البستاني وعبد الرضا علي وخالدة خليل ويوسف أبو اللوز وعبد الجبار ناصر وشكيب كاظم وقيس مجيد المولى وفيصل عبد الحسن وعيسى الياسري وفرج ياسين ورياض الأسدي وحمزة مصطفى وجاسم عاصي ومنذر عبد الحر وحسن النواب وعلي حسين عبيد وعبد الكريم كاظم وزهير الجبوري وجمعة اللامي ومحمد رضا مبارك وعدنان حسين أحمر وعلوان السلمان وأحمد الدوسري ورياض عبد الواحب وعلي الأمارة وجمال جاسم أمين وعلي لفتة سعيد وعبد الاله الصايغ ونعيم عبد مهلهل وزيد الحلبي وعلي السوداني وسيف الدين كاظم ومحمد الفيتوري (السودان) وصلاح فضل (مصر). ديوان استثنائي يستأهل الاحتفاء الكبير.