نظرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بالمنستير في احدى جلساتها الأخيرة في قضية قتل ذهب ضحيتها شاب اثر طعنة في صدره أصابه بها أحد أجواره في معركة بسبب خلاف متواصل حول رسم حدود فلاحية تفصل بينهما. تعود أطوار هذه القضية المؤلمة التي جدت بمدينة ملّولش من ولاية المهدية الى شهر جوان من السنة قبل الفارطة. وتفيد أوراقها ان كهلا في عقده الرابع قرر يوم الواقعة زيارة والدته التي كانت تقيم بمفردها في أرضهم الفلاحية كائنة بملولش. فتحول من مقر اقامته بإحدى مدن ولاية صفاقس حيث استقر صحبة زوجته وأبنائه للعمل الى مسقط رأسه وامتطى الكهل درّاجته النارية وودع أبناءه وشد الرحال الى والدته يهزه الحنين اليها بعد غياب غير قصير ويحدوه الأمل في اقناعها بالعدول عن اصرارها على العيش لوحدها في أرضها الفلاحية بعد وفاة زوجها وزواج كل أبنائها. وصل الكهل فاستقبلته والدته العجوز بكل حفاوة لكنه لاحظ علامات الحزن والاطراق عليها فأيقن ان مكروها أصابها. سألها عن السبب فأخبرته بأنها قد تشاجرت كالعادة مع جيرانها بسبب محاولاتهم تغيير علامات رسم حدود الارض الفلاحية وأنهم قد تعمّدوا إهانتها مستغلين في ذلك وحدتها وكبر سنّها. لم يستغرب الكهل شكوى والدته فقد تعوّد على سماع نفس الموضوع كلما جاء لزيارتها لأن الخلاف بين عائلته وأجوارهم قديم لم تزل أسبابه اذ غالبا ما يدعي هذا الطرف أو ذاك تعمد الآخر محاولة طمس العلامات الفاصلة بين الارضين لربح بضعة أمتار. خرج الابن الى الضيعة يتفقد حدودها ويتحقق مما قالته والدته فصادف أحد أجواره قريبا من المكان فلامه على اغلاظه القول لوالدته العجوز وطلب منه الكف عن مضايقتها والتزام الحدود الفاصلة ين ضيعتهما. يروي الكهل أمام المحكمة كيف قابل جاره عتابه له بالسب والشتم وكيف انضم بقية أفراد العائلة الى ابنهم وساندوه في شتمه ثم شرعوا في رميه بالحجارة ففر من المكان ودخل الى منزل أمه وأوصد الباب دونه. لكن أجواره التحقوا به وحاولوا خلع باب الدار ولما يئسوا من ذلك انصرفوا. كمين يضيف الكهل أمام المحكمة أنه خيّر البقاء في منزل والدته الى ساعة متأخرة من الغروب تجنبا لبطش أجواره. وبعد ان تناول طعام العشاء مع والدته دعاها الى مرافقته الى منزله لكنها أبت ان تترك أرضها. وفي حدود الساعة التاسة ليلا ودّع أمه واستطلع المكان ثم غادر بدراجته النارية وعوض ان يسلك طريقا رئيسية خيّر قطع مسلك فلاحي لأنه توجّس خيفة وتوقّع ان يترصده خصومه الذين كانوا حسب زعمه يضمرون له الشر. وقد كان احساسه في محله فما إن توغل في المسلك الترابي حتى برز له شابان كانا يختبئان خلف شجرة كثيفة الأغصان حينها أيقن أنه وقع في كمين سعى بكل ما في وسعه لتفاديه. معركة... فقتيل ألقى الكهل بدراجته جانبا وفرّ مسرعا لكن الشابين لاحقاه وتمكنا من الامساك به وشلا حركته ثم صفّر أحدهما يطلب قدوم صديقيه اللذين كانا يراقبان مسلكا آخر. أطبق الجميع بالكهل وحاصروه، واستل أحدهم سكينا أشهرها في وجهه انتقاما منه بسبب مضايقة والدته لهم وتهجمه على أفراد أسرتهم. أيقن الكهل أن أجواره مصرين على الفتك به فارتمى على السكين بسرعة وتمكن من افتكاكها بعد أن أصيب بجرح في يده وانقلبت الأدوار فصار هو الذي يلوّح بالسكين طالبا من الشبان تركه وشأنه لكنهم لم يتراجعوا وحاولوا الالتحام به عندها أصاب أحدهم في ذراعه كما أصاب الثاني في فخذه وفي صدره فسقط على الارض وأسلم روحه فيما تم اقتياد المتهم الى مركز الحرس.