حتّى وأنت تناقش بائع خضر في سعر البطاطا سيجرفك الحديث إلى الاحتكار، وارتخاء المراقبة الاقتصادية. وسيشتكي البائع من كثرة الوسطاء وينتقد السياسة الفلاحية للحكومة وضعف مساعدتها للفلاّحين على وقاية إنتاجهم من الآفات . وقد يذهب حديثكما إلى مشاكل التّخزين وقلّة اهتمام وزارة التجارة باستيراد ما يلزم من الموادّ الغذائية وقت الحاجة، مع اختيار البلدان التي توفّر السّلعة الأحسن والأسعار الأنسب. وهذا يفضي بكما إلى علاقات بلادنا الخارجية وأساليب وزارة التّعاون في توفير أحسن الظروف لإنجاح المعاملات.
لو أصابك الحزن والغضب من حادث اصطدام قطارين بسبب الموتى والجرحى، فإنّ نقاشك في المقهى سينتقص من دور شركة السكك الحديديّة في تجديد تجهيزاتها، وربما قصّرت الدّولة بعدم رصد اعتمادات كافية لذلك. وإذا قال أحدهم أنّ الخطأ كان بشريّا سينحرف الحديث ناحية ضعف المهارات أو قلّة التّدريب على التجهيزات الحديثة. قد يأتي ذكر وسائل النّقل الأخرى، والكلام عن خوصصة وسائل النّقل العمومي التي نجح تطبيقها في اليابان، فيعارضه آخر: ولكنّها أخفقت في بريطانيا . ولا ينتهي الحديث إلا بعد التّعريج على الصّفقات المشبوهة، يتلوه سؤال صار موضة هذه الأيام: « متى يتمّ تطهير المؤسسات العمومية ويبدأ عهد الشفافية ؟» وهو سؤال تلهج به كلّ الألسنة دون أن يجيب عليه أحد. وهكذا دخلت أحاديث السياسة شؤون حياتنا جميعا ... صارت خبزنا اليومي وهواءنا الذي نتنفّسه انتظارا لشيء لم يأت بعد، وقد لا يأتي أبدا.
2
يتذكّر الجميع قصّة فكهة أوردها كتاب مدرسي ضمن نصوصه بعنوان « الحلاّق الثّرثار»، ولم يكن الرّجل ثرثارا ولكن مهووسا بالسياسة، استولت على عقله، وشغلته عن همومه الخاصّة وعن العناية بإتقان عمله والسّهر على راحة الحرفاء، فهو لم يكن يتحدّث لمجرّد الثّرثرة، وإنّما تثيره الأحداث فيسهو عمّا يفعله، وينساق متفاعلا معها مسلما إليها لسانه وفكره ومشاعره.
كانت الحرب بين روسياواليابان على أشدّها، وحلاّقنا هذا من أحرص المتابعين لمعاركها والتّدقيق في من انتصر ومن انهزم، وأين، وكيف ؟ وذات يوم وهو يروي للزّبون تفاصيل إحدى المعارك نسي أنه حلاّق وراح يرسم خريطة المواقع في شعر الرّجل، وأنهى حديثه بإنزال قبضة يده على أمّ رأس المسكين قائلا: «في هذا المكان ستحسم فيه المعركة».
كان الشيخ محمد عبده يقول: «لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس، وكلّ ما اشتقّ من السّياسة، فإنّها ما دخلت شيئا إلاّ أفسدته». وها نحن الواقعون اليوم في دوّامة التلاعب المذهبيّ والنفاق السياسي والتلاسن والنّميمة وعدوان بعضنا على بعض أولى بشتم السياسة مرّتين لأننا صرنا لا نعرف إلى أيّ المتاهات ستأخذنا عواصفها، وهل ستنفرج عن أيام رخاء ويسر، أم إلى أيام خسر وعسر ؟ لقد صرنا مع ألاعيب السياسة نشكّ في كلّ مشروع وقانون، وفي كلّ حزب وكلّ زعيم، وفي كلّ سطر يكتب في الدّستور، وفي شرعيّة الحكومة ذاتها. نتساءل أحيانا ما لزوم حكومة عاطلة ذهنيّا وعمليّا، عجزت عن أن توضّح السّبل ؟ أن تبني الأمل لا أن تبدّده؟ أن تحلّ المشاكل لا أن تخلقها ؟ أن يتّسع عقلها لرعاية شؤون البلد بكامله لا لرعاية فئة حزبية.
3
مللنا أحاديث السياسة ونقاشاتها بعد أن كنّا نشتهيها ونتمنّاها، لكثرة هراء أجوف صرنا نسمعه فلا يملأ عقلا ولا يطمئن قلبا .فاضت السّاحة الوطنية خداعا ونفاقا وكذبا ورغبة مفضوحة في « النّهوض» على أكتافنا إلى الحكم لا إلى الإصلاح وبذر الطّمأنينة والأمل.
إنّ شعبنا غدا في يومه أرقى من أمسه، وغدت نخبته أرجح رأيا من زعمائها، ولكنّه محتار، يريد أن يغيّر ما هو فيه ولا يدري كيفيّة ما يحبّ أن يكون فيه. هو متحمّس ومندفع ولكن لا يعرف أين يتّجه، لذا فمطلبه الخروج من دوائر الحيرة والاضطراب التي وضعه السّاسة فيها.. هو محتاج إلى عقل يقوده وإلى شعور يحمّسه وعاطفة تلهمه. فمتى يرتقي سياسيّو بلدنا إلى هذا المستوى؟