لا ينقصنا اليوم في تونس إلا استقبال الحلازين من الإرهابيين من تنظيم القاعدة كلاجئين سياسيين، ومن جواسيس «الموساد» الإسرائيلي عبر الحدود متنقلين من بين الحدود التونسية الجزائرية للتنسيق تجاه الحرب في السورية والتواطؤ مع الجهادين في بلاد المغرب من أجل إسقاط آخر العواصم المقاومة: دمشق. .. أجل لا ينقصنا إلا الحلزون يرسم بصاقه اللزج خرائط العالم الجديد وحدودا لدويلات هشّة كالأصداف.
(2)
ما كان للزّعيم في الكافالعالية أن يدرك في تلك الصّباحات الرّبيعية وهو يملأ رئتيه بالهواء البارد النقيّ قبل أن يستقبل الشعراء المادحين لجلالته في ذلك اليوم البهيج أن الحلزون الصاعد على جدار الشرفة متتبعا خيط الرطوبة لا يكفيه من البصاق اللزج حتى يصل إلى مكمن الخديعة القديمة التي يكظم جرحها التاريخي دون أن يكون لسلالته الحلزونية أي دخل... ويدرك الحلزون أنه رغم تلك الخيانة أنه أنقذ سلالة الأمازيغ النوميديين الموريطانيين اللوبيين البونيين البونيقيين الطوارق قرونا طويلة حينما كان يمنح نفسه غذاء ثمينا يطبخ في الماء والملح أو يشوى على النار في أيام الجفاف والكفاف. ويدرك أيضا أن من سلالات الأمازيغ الأحرار من نسي إسم الحلزون وأكتفي بإسمه السّامي «البوبعلي» الذي يحتفظ باسم الإله الفينيقي «بعل» كما ينطقه الأهالي الأصليون من باجة المطمورة إلى ما بعد مدينة تبسة. ..
ربما كان الزّعيم حين يسرّح بصره في ذلك الأفق البعيد من شرفة إقامته الرّبيعية في الكاف، يستذكر محارق البلاد وملاحمها المغدورة في أقيانوس التاريخ الممتد من الطاولة إلى حدود أعمدة هرقل. لعلها تتراءى له الطاولة طاولة يوغرطة Table de Jugurtha.
من بين تلك التلال المحيطة فيلتمع ضوء في عينيه الزرقاوين ويردّد في نفسه « أنا يوغرطة الذي انتصر... ها أنا ذا أحرس حدود نوميديا في انتظار توسيع حدودها ولملمة غبار ذواتها «... ربما كان الزّعيم حين يسرّح بصره في الأفق الذهبي المتمايل بسنابله الحبلى يكاد يسمع سنابك الخيل تهدّد بإحراق البلاد، لكن الزّعيم له من الوقت الكافي أن يتلمض عذوبة الإنتصار ويكفيه أن يردّد وهو يقضي عطلته الشتوية أو الربيعية في قصره المطل على مدينة الكاف أن يردّد بشيء من الارتياح قبل أن يدخل عليه الشّعراء المدّاحون « أنا يُوغرطة الذي انتصر».
(3)
في معلقة شهيرة تعود إلى عام 1890 تحت عنوان « Terres à Vendre « كان غبار الذوات Poussière d'individus قبل أن يردد الزعيم قولته الشهيرة «أنا يوغرطة الذي انتصر» بل قبل أن يتشكل كنطفة بين صلب وترائب والده، لا يعلمون أنهم بيعوا بأبخس الأثمان، أذكر السلالات في الشمال الغربي من جبال خمير إلى سباسب القصرين علاوة على الوسط والساحل والجنوب لا شيء يشدّها إلى الوجود إلا لغة عربية ما استطاعت أن تكون على صفائها نقيّة من فصاحة الأمازيغ ولثغة البرانيس، ولا يشدهم إلى الوجود إلا تراب الأرض التي تماهت مع جلودهم وعروقهم.
«غبار الذوات» لا يعلمون أن الأرض قد سحبت من تحت أقدامهم في ظل دولة متداعية لا تعرف الهيبة إلاّ بإطلاق العصا على من عصى في دفع الضرائب حين ظهرت المعلقة المذكورة الصادرة عن الحكومة الفرنسية والموزعة على الجدران وفي مكاتب الهجرة في المدن الفرنسية والتي يقول نصها:
«استعمار تونس بطاقة بنصف التسعيرة للمهاجرين الفرنسيين على شركات سكك الحديد والنقل البحري – خمس رحلات على البواخر كل أسبوع – من مرسيليا إلى تونس –36 ساعة مدة العبور – أراض للبيع ب 5 فرنكات للهكتار الواحد «...لقد مرّ على هذه المعلقة اليوم 122 سنة، وهو ذا الإعلان يعود مرة أخرى في شكل جديد وكأنه يعلن أن الدولة التونسية قد تلاشت، قلت يعود الإعلان بشكل جديد ومتحذلق على لسان رئيس مؤقت بلا صلاحيات يخلط بين مفهوم الدولة وبين مفهوم الأمة وبين الثورة وبين الطوباوية. رئيس يكرّر بشكل رديء في مقولته «الحريات الخمس» مقولة جون لوك John Locke في « الإتفاقية الثانية للحكومة Le second Traité du gouvernement التي كتبها عام 1690 والتي استلهمتها وثيقة استقلال الولاياتالمتحدة عام 1776. مقولة المرزوقي الخرقاء التي يريد من خلالها تحقيق وحدة المغرب العربي من خلال السّماح لغبار من الذوات في حرية التنقل والعمل ونقل الأموال والتملك وحتى الانتخاب هي تأكيد على عدم الإيمان بالدولة التونسية باسم طوباوية خرقاء وهي مقولة ستعيد إلينا الاستعمار مرّة أخرى سواء إستعمارا مباشرا أو استعمارا بالوكالة. ولأن الرئيس لا يدرك أن الدولة التونسية هي دولة – أمة Etat – nationو من ذلك تغيب عليه تماما مسألة الأمن القومي في محيط معاد ليس فقط للثورة التونسية فحسب بل للدولة نفسها وضمن الدرجة الصفر لمفهوم الدولة أي من منطلق حدودها الجغرافية.
(4)
ولأن الشعارات الطوباوية قد تنجح أحيانا وليس دائما في صناعة الثورات فإن هذه الشعارات لا يمكن لها بناء دولة والمحافظة عليها. وأكاد أرى في مقولات المرزوقي الخمس عبثا صبيانيا بالدولة التونسية في مدة زمنية تلاحقت فيها الأحداث متواترة وكلها متعلقة بمسألة الحدود التونسية ومسألة الأمن القومي التونسي لعل أبرزها طلب وزير الدفاع التونسي عبد الكريم الزبيدي في أفريل الماضي من الجنرال كارتر هام Carter F Ham مساعدات عسكرية بلغت 32 مليون دولار لمساعدة الجيش الوطني لتعزيز قدراته العملياتية وهو ما يعني أن الدولة التونسية على ما هي عليه عاجزة عن تأمين حدودها من أخطار ظاهرة وأخرى مخبأة يكفي أن نشير إلى أهمّها وهو خطر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الذي يرى في ضعف الدولة التونسية فرصة للتسلل إلى داخل الحدود التونسية وتحويل البلاد إلى أرض للجهاد الأعمى.
وقد بينت الأحداث أن الخطر حقيقي منذ تدخل الطيران المسلح التونسي في المثلث الحدودي التونسي الليبي الجزائري ضد جماعات مسلحة متسللة وما سبقها من أحداث أخرى متعلقة بانتصاب مسالك للسّلاح على الحدود الجنوبية للبلاد دون نسيان التحاق شبّان تونسيين للقتال سواء فيما يتعلق بالأحداث في ليبيا أو الالتحاق بساحة الحرب الجديدة في سوريا، ناهيك عن ظهور خطاب جهادي للعلن عند بعض الجماعات المنتسبة للتيار السلفي تحت رعاية حزب النهضة سواء في المساجد أو في مسالك التواصل الإلكتروني. كما يجب أن لا ننسى عودة هؤلاء «المجاهدين» التونسييين إذا لم يعودوا في توابيت ستشكل مستقبلا خطرا على الأمن القومي للدولة التونسية. وهو أمر من الواجب أن يكون ماثلا في ذهن المرزوقي.
(5)
«أنا يوغرطة الذي انتصر» قالها الزّعيم دون أن يدور في خلده أنه سيأتي يوم على دولته يأتي قوم يتحرّقون لفتح حدودها ويدخلونها كأرض مباحة، قوم يفرطون في حدودها التي ارتسمت بدم وعرق ومُهج وأحلام أمّة قدّت من غبار ودموع ومحار، باسم الوحدة نفسها وحدة بلاد المغرب التي ناضل من أجلها الزّعيم وأرادها حلم يقظة يُنحتُ على مهل حين تكون هذه الوحدة المغاربية حاجة داخلية مكتملة الشروط. .. أجل لم يكن يدور في خلد بورقيبة أنه سيأتي يوم ليأتي فيه رئيس وقتي لا يملك من الرئاسة إلا ما قذفت به الأقدار إلى هذا المنصب فيهدر هيبة المنصب، ويهدر هيبة الدولة بأخطائه المرتجلة لعل آخرها اعتباره للعملية الإرهابية التي استهدفت مقر جهاز الأمن القومي للدولة السورية أمرا خاليا من كل إرهاب، وكأن مشكلة الدولة التونسية في زمن تعطش فيه نصف البلاد في هذا الصيف الحارق وجوب الإعلان عن موقف من القضية السورية والتدخل في شؤون دمشق بعد أن سبق له وأن عرض على الرئيس السوري اللجوء السياسي إلى تونس وبعد أن أشرف باسم رئاسة الجمهورية على إحدى مؤتمرات «أصدقاء سوريا» واحتضان أشغاله في تونس وهو المؤتمر الذي تفوح منه روائح النفط البترودلاري والنافتالين الوهابي وعطانة أجندات الناتو. ..
(6)
ما كان للزعيم أن يدرك حجم الخيانة المتلولبة في صدفة الحلزون... الحلزون الهارما- فروديتي أو الخنثوى الذي يحمل الذكورة والأنوثة، الذي يحمل دولته الصدفية على ظهره محتميا بها، لا وطن عنده إلا القوقعة، لا أهل عنده إلا لحمه الرّخو، لا عقيدة إلا التقوقع والمخاط، ولا حدود له إلا ما يخطه البصاق المرهمي في طريقه نحو الرّطوبة. .. ربما لم ينتبه الزعيم وهو يردد في نفسه «أنا يوغرطة الذي انتصر» إلى خيانة الحلزون وهو يبحث عن الرطوبة حين دل الجنود الرومان كما يذكر المؤرخ الروماني سالوست Salluste على ثغرة في جدار طاولة يوغرطة التى جعل منها الزعيم البربري قلعة منيعة للصمود تجاه الرومان، والتي أرادها يوغرطة في نفس الوقت، أي الطاولة، حدودا لمملكته البربرية الجديدة كتمرين مفتوح لإعادة لملمة الوطن النوميدي الحر، وكتورية بلاغية لحدود سابقة ارتسمت على هضبة سمّيت هضبة «بيرسا» كرحم لإمبراطورية قرطاج
ارتسمت حدودها سلفا في ذهن امرأة حارقة فينيقية تدعى «هاليسار» في شكل خيط من الجلد رسمته في ذهنها كأنه متاهة ديدالوس والتي قبلت بها قبائل البربر كبداية لملحمة كتبت بالوشم الأزرق على جسد شهي. .. (7)
من على طاولة يوغرطة، من فجاج القصرين، من مرتفعات تالة، من جبال الكاف، من سهول بلارجيا، من مطامير باجة، من سباسب سليانة وغابات خمير وفيافي سيدي بوزيد، وأخاديد قفصة وبراري صفاقس وجنانها وفجاج الجنوب العصيّ ومرافئ السّاحل وزياتينه أرى بعيون مكحلة بالرّماد النار موقدة للحلازين.