(1) للمرة الأولى ومنذ الثورة المغدورة لعلي بن غذاهم الماجري «باي العربان» في القرن التاسع عشر (1864) يحقق الضغط الشّعبي التونسي و يفرض سلطته على الأمر الواقع من خلال ذلك الاعتصام الشّعبي الذي ارتسم منذ قيام الثورة التونسية في 14 جانفي. ولقد تأخر هذا الاعتصام بوصفه التجسيد الحي لإرادة الشّعب بالمعنى الذي رسمه بلقاسم الشابي 146 عاما، أي منذ محاولة علي بن غذاهم محاصرة تونس المحروسة تحت حكم البايات الذين حكموا البلاد بلا عهد ولا أمان حين شارف رجاله على الهضاب المطلة على الحاضرة... وطوال هذه السنوات كانت للشعب التونسي هبات ضد الظلم والإستعمار و الجحود، سنوات حقق فيها هذا الشعب كينونته من غبار ذوات (Poussière d'individus) إلى أمة تونسية نجحت بشكل مذهل في نحت كيانها وبناء دولتها وإرساء ما يكون به الشعب شعبا , أي شعب لا يستسلم ولا ينهزم بل يموت من أجل كرامته. (2) «باي العربان» لم تخلده أوراقنا النقدية و فضلت في عهد الجنرال المخلوع تخليد الجنرال الشركسي المملوك خير الدين باشا التونسي استجابة لبناء أيديولوجيا النظام وبروباغندا الإصلاح الواهي الذي كرّسته الأدبيات الرّسمية للنظام البنفسجي المظلم, فحول خير الدين باشا عبقري زمانه في السياسة السلطانية التنويرية لا يذكر في تاريخ البلاد إلا لماما، وإن ذكر فإنه يذكر إلا من خلال ما كتبه المثقف المخزني الوزير أحمد إبن أبي الضياف العوني سليل سليانة في كتابه إتحاف أهل الزمان و التاريخ يكتبه للأسف الشديد المنتصرون ، بذلك الأسلوب المتردد بين الإعجاب به وبين واجبه في الدفاع عن أولياء نعمته من بني التركي. كما أن «باي العربان» قد تم التعتيم عنه في الزمن البورقيبي نظرا لذلك الحذر الذي كان يعبر عنه بورقيبة تجاه عربان الشمال الغربي وخوفه من العروشية التي تلخصها عبارته الشهيرة»... فراشيش وماجر وسخط»، وعوض الاحتفاء بعلي بن غذاهم فضل بورقيبة في تورمه النرجسي الاحتفاء الملك النوميدي يوغرطة معتبرا نفسه «يوغرطة الذي انتصر»، ولم تعن له مدينة الكاف غير قصر شتوي يطل من على طاولة يوغرطة. في حين ارتد بورقيبة وهو الذي يحارب العروشية و الذي كرس التفاوت الجهوي في البلد إلى بطانته الضيقة و التخمر على ايقاع سناجق سيدي المازري. (3) كان اعتصام القصبة أهم مظهر لتجلي إرادة الشعب القادم من أعماق البلاد، وهي الأعماق التي شهدت قبل التألق الرمزي للبوعزيزي في سيدي بوزيد، الحوادث المفصلية للحوض المنجمي التي دقت المسامير النهائية في نعش النظام البنفسجي الفاسد. وكان الاعتصام في ساحة القصبة اختبارا دقيقا لشرعية الثورة التي حاول الأمن في ظل الحكومة المؤقتة كسره وتركيعه، كما حاول الإعلام المتواطئ مع أذناب النظام البائد ومليشياته تشويه صورته، وهو نفس الإعتصام الذي حاول بعضهم ممن يسمون أنفسهم بالأغلبية الصامتة توجيه الإهتمام به إلى إعتصام فاشل سمي باعتصام القبة. كما كان الاعتصام أيضا الذي استوعب من خلال مقاومة مرابطيه الأصليين كامل التونسيين في العاصمة بنخبهم وبعامة الناس البسطاء كان اختبارا ملزما للحكومة المؤقتة في تمثل حجم الضغط الشعبي من خلال مطالبه واستماتته هذا الضغط في الدفاع عن الثورة ووهجها... إلا أن أهم ما يمكن أن نشير إليه من خلال هذا الاعتصام الفريد في تونس هو تعرّف الشّعب التونسي على قوّته وسلاحه الحقيقي الذي سوف يستعمله كل مرة يتم فيها الإلتفاف على المطالب الأساسية للشعب وهي التي بدأت منذ عهد علي بن غذاهم في رفض الأداء البايلكي المجحف وتحوّلت بعد 164 إلى مطلب الكرامة والحرية والعدالة الإجتماعية والديمقراطية... لقد كان الاعتصام بمثابة تطبيق حقيقي للسيادة سيادة الشعب وكان الدستور الذي ألغى كل الدساتير. (4) انفض الاعتصام في القصبة يوم الجامعة الفارط، لكنه سيظل من هنا فصاعدا الموعد المتجدد للشعب وستظل القصبة الفضاء الدائم للاحتجاج والضغط على الحكومة. ففضاء القصبة وهواؤها الأثيري قد شحن بهذه الطاقة الكهربائية المشعة من الشعب الذي جدد هواؤه منذ الاعتصام الضخم الذي قاده الزعيم فرحات حشاد في غرة ماي 1951 وهو نفس الاعتصام الاحتفالي الذي برهن فيه الشعب التونسي على فتح جبهاته المتعددة سواء ضد المستعمر الفرنسي أو ضد الحكومة «الكعاكية» – كما يسميها حشاد – أو ضد التواطؤ الذي ينسجه قلة من التونسيين ضد مصالح الشعب والكادحين... لقد كان حشاد حاضرا في الاعتصام يخرج طيفه من مقامه في القصبة ليهتف في آذان الناس «أحبك يا شعب تونس الذي امتحنك الدهر وامتحنته فعرف فيك الشجاعة مع الإخلاص وعرف فيك الصبر مع المثابرة»... ولقد انفضّ الاعتصام الجليل بعد تحقيق حزمة من المطالب التي تلكأت الحكومة المؤقتة في تلبيتها و لعل من أبرزها مطلب بعث المجلس التأسيسي الذي ستوضع من خلاله كل رهانات البلد في انتظار تحقيق حزمة من المطالب المستعجلة لعل أهمها اجتثاث الحزب البنفسجي وإعادة النظر في تركيبة وأداء أعضاء لجنة تقصي الحقائق ولجنة محاسبة الرّشوة والفساد وإلغاء البوليس السّياسي الذي لا يزال حارسا للفساد ومضطهدا للطاقات الحية الشعبية وقامعا لذكاء النخب السياسية والفكرية التونسية ... أجل لقد انفض الإعتصام كانتصار مدو للثورة التونسية، وعاد أحفاد «باي العربان» إلى شؤونهم الصغيرة يودعهم أهلهم في المحروسة بالورد والغناء والدموع، وتركوا في ساحة القصبة أرواحهم وأصواتهم وأحلامهم وأغانيهم وحتى قصص حبهم الصغيرة التي انفلقت كزهر ربيعي مبكر، غير أنهم تركوا أوّل بند من بنود الدستور الشعبي الجديد «إن عدتم عدنا» بنفس المعنى الذي قاله الشاعر أولاد أحمد «نعود غزاة لهذا البلد». (5) الغزالة الهاربة من الكعبة... الغزالة الذهبية ذاتها ترجلت في الليل الشتائي في القصبة، كانت الأم التي ترابط تحت الخيمة تهدهد إبنها الصّغير لينام، كان الطفل الصغير يقول لأمه « يا أمي عطشت، فتجيبه «نم يا حبيبي» ستأتيك الغزالة لترويك بالماء الزمزمي... نم يا حبيبي» وينتظر الطفل حتى يأخذه النوم وهو في انتظار الغزالة الهاربة من الكعبة، الغزالة الذهبية ذاتها التي تترجل في حلمه وتنزل من المنحدر تتسلل إلى حلم الطفل النائم و تحمله على جناح الضمإ إلى فراديس لا برد فيها ولا خوف، ولا ظلم ولا فقر ولا جوع، ويستيقظ الطفل على صباحات الاعتصام « اعتصام، اعتصام حتى سقوط النظام» يسجل هذا الطفل الصغير تلك الهتافات في ذاكرته الطرية ويدخرها ليوم آخر، ربما حتى يستعيد ترديدها كذخيرة لا تنضب. ذات الطفل الصغير في يسأل اليوم في هذا الصباح الربيعي أمّه قرب تنور الخبز « متى سنعود إلى القصبة يا أمي؟ «فتهرب الغزالة من كنوز السراديب الوهابية لتعود إلى كتاب الأصنام في انتظار ترجلها مرة أخرى في حلم الصّبي عند الظمإ، ويبتسم حشّاد، ويهرب «باي العربان» من شفاعة الشّريف التيجاني، ومن كراكة حلق الوادي ليعيد صفوف الأعراب في اتجاه القصبة ...