1 روي لنا الأستاذ عبد الجليل التّميمي في جريدة المغرب أنّه كلّف قديما بإدارة الأرشيف ، وخلال تفقّده لمكاتبها فتح غرفة منسيّة في مبنى الوزارة الأولى فوجد أمامه ثلاثة توابيت ، أحدها لخير الدّين باشا والآخران لشخصيّتين وطنيّتين . وكتب : « تألّمت كثيرا وتأسّفت لهذا الوضع البائس لرموزنا الوطنيّة البارزين، وكان من واجب الدّولة إعداد مقبرة وطنيّة لهم أو مزار لائق.» وأضاف أنه نبّه المسؤولين إلى وجود هذه التّوابيت الثّلاثة ووجوب العناية بها، فلم ينتبهوا. هكذا نحن مستعدّون دوما لنسيان الرّوّاد ...وقتل الأجداد .ممحاتنا جاهزة لفسخ أسماء المصلحين والعلماء والمبدعين النّبهاء، من مهّدوا لنا السّبل وبنوا المدن ، فكأنّنا هجناء أو لقطاء أو «أمنيزياك» غدرتهم الذّاكرة. وسأكتفي هنا بذكر إصلاحات خير الدّين في ميدان التعليم بما في ذلك إنشاؤه للمدرسة الصّادقية التي تخرّج منها رجال حزب الدّستور الذين نسي بعضهم رفات المصلح الكبير في غرفة مقفلة.
2
تذكر بعض الوثائق التاريخية (1) أنّ الوزير خير الدّين طلب من عمّال الجهات تقارير عن الكتاتيب عندهم وعدد تلاميذها، وعن أحوال المؤدّبين من استكمالهم لشروط التعليم ، ومدى إقبال الأهالي على التّعليم ، وبيان حال الأبنية من الاستقامة والصّحّة، وهل منها القدر الكافي بكلّ بلد .وهذا دليل ساطع على مدى متابعته لأحوال التعليم وحرصه على إصلاحه ممّا بقيت آثاره إلى اليوم. وقد نبّهت تقارير وزير المعارف الوزير خير الدّين إلى أن التعليم في جامع الزّيتونة غير متابع بتفقّد جادّ يراقب المدرّسين ويختبر استيعاب التلاميذ للدّروس ،فكوّن لجنة عامّة لإصلاح التّعليم الزّيتوني ولإنشاء مدرسة جديدة عصريّة تعدّ تونس للاندماج في الحضارة الحديثة، ومع تولّيه بنفسه رئاسة اللجنة ترك الحريّة لأعضائها يحرّرون فصولها كما يرون ، ثمّ يقابلونه لنقاش ما حرّر وتعديله، قبل عرض التّقرير على الباي. ولم يكن إشراف خير الدّين على اللجنة صوريّا، بل أفادها بخبرته بميدان التّعليم وأثّر في توجّهاتها، ونستدلّ على ذلك «بأنّ خير الدّين قد حلّل في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» التعليم الفرنسي وخصائصه وطبقات المتعلّمين من ابتدائي وثانويّ وعال، وغير ذلك من المواضيع والقضايا التّربويّة المتنوّعة ( ص.193)، كما أورد تقرير وزير المعارف الإيطالي ( ص.300). ولا شكّ أنّ هذه الثّقافة العامّة لخير الدّين تؤثّرحتما في طريقة حواره مع أفراد اللّجنة « (2)
3
ثمّ... «أدرك خير الدّين أنّ علماء الزّيتونة عموما يحرصون كلّ الحرص على إبقاء التّعليم الزّيتوني على وضعه الموروث دون تغيير في محتواه وأساليبه ، حتّى يكون حصنا حصينا للتّراث الدّيني واللّغويّ، لذلك اتّجه إلى إحداث معهد جديد يكمّل رسالة جامع الزّيتونة ولا يصادمها ، إذ جعله قائما على تدريس العلوم الشّرعية واللّغويّة والعلوم العصريّة ، إضافة إلى تعليم بعض اللّغات الأجنبية ( الفرنسية، الإيطالية، التّركيّة). غير أنّه كان يعلم جيّدا أنّ هذا المشروع الجريء المستقبليّ لا يرضي حتما خصومه ، ولا يحظى بقبولهم ، لأنّهم يريدون إبقاء التعليم في إطاره التّقليدي ، ولأنّهم يخشون من أن يصبح المتخرّجون فيه أعداء وخصوما «.(3) على هذا المنوال انبعثت المدرسة الصّادقيّة و مكّنت تلامذتها من الاستفادة من نوعي التّعليم التّقليدي والعصري من خلال برنامج التّكوين المزدوج الذي وضع لها خصّيصا، وجسّم خلاصة ما أراده الوزير خير الدّين وجماعته .
4
في إحدى رواياتي يخاطب البطل رفيقه الشّابّ: «أنت خبير هندسيّ ممتاز لكنك لم تهتمّ كثيرا بالتّاريخ أو لم تجد الوقت الكافي لقراءته، لذا أفيدك بما قاله ابن خلدون عن أهل هذا المغرب الكبير ومنهم قبيلتك وعشيرتك وأهلك : قوم لا يأخذ اللاّحق منهم عن السّابق ، سندهم مقطوع ، وحديثهم غير مرفوع».
(1) فوزي المزوغي، التعليم التقليدي بوطني بنزرت وغار الملح في عهد الوزير المصلح خير الدّين من خلال وثيقة تاريخية نادرة ،بنزرت عبر التاريخ دورة 1998، ص.102، جمعية صيانة المدينةبنزرت، تونس 1999. (2) عبد العزيز بن يوسف ، عمر بن الشّيخ شهادة على عصر متحوّل،جمعيّة صيانة المدينةبنزرت ،ص.92، تونس1999. (3) م.س.صفحة 93.