أصبحت أعمال العنف بعد الثورة وخاصة منذ انتخاب المجلس التأسيسي وتنصيب الحكومة الشرعية خبزنا اليومي، والظاهرة استفحلت الى أن أصبحت مرضا خطيرا ينخر المجتمع في جميع الميادين. وعجزت هياكل الدولة ومكوّنات المجتمع المدني عن التصدي لهذا الغول الذي أضحى الطريقة التعبيرية المفضلة لمعظم فئات المجتمع بمختلف شرائحه العمرية وانتماءاته الفكرية ومستوياته الاجتماعية. وتتالت محاولات العلاج من لدن السلط الثلاث ولكن دون جدوى بل طفت على سطح الأحداث المتواترة ظاهرة على غاية من الخطورة تتمثل في عدم مبالاة القائمين بالعنف بكل حملات التوعية والردع التي لم تعد تخيفهم بل أصبحت تضحكهم أحيانا الى درجة الاستهزاء وعدم الاكتراث بل ربما قوبلت بردود فعل أكثر استفزازا واستهتارا. أصبح هواة العنف أو محترفوه (لست أدري!) لايهابون شيئا، ولو عرّضوا أنفسهم الى أكبر المخاطر... والدليل هو انتشار ظاهرة حرق الذات.. بينما يقدم آخرون على الضرب بالحجارة والهراوات والسيوف ولا تثنيهم القنابل المسيلة للدموع ولا «ماتراك الحاكم» ولا شيء... لا شيء... انها ظاهرة تهور عارمة تترجم حالة من اليأس انتابت فئات عديدة من المجتمع وتعكس فقدانا تاما للثقة في من يحكمونهم بل وبكل بساطة في مصيرهم وحتى في أنفسهم.. تراهم يتأملون بعيدا في الأفق فلا يرون الا الظلام ولا خيط من النور يحمل لهم الأمل...
فتحبط عزائمهم وينتابهم اليأس واذا بهم يردون الفعل في أول مناسبة. وتتعدد وتتنوع المظاهر كحرق النفس او قطع الطريق أو تهشيم الممتلكات العمومية والخاصة وغيرها مما اكتشفناه من أنواع عنف بعد الثورة.. فلا تستغربوا بعد ذلك مما وقع ليلة العيد بالملعب الاولمبي بسوسة.. وقع نفس الشيء قبل الثورة وبعد الثورة بصفة منتظمة وفي كل أسبوع من مختلف ملاعبنا.. واستنتجنا في كل مرة ان الملاعب أصبحت متنفسا للشباب للتعبير عن كبته وحرمانه وقد ساهم حكم الطغيان والاستبداد بشكل كبير في تفشي العنف في ملاعبنا لأنه كان يقبل بأخف الأضرار... كان يخشى ان يخرج العنف من الملاعب فيعم الشوارع والمحلات العمومية والمعاهد والكليات.. لكنه لم يقرأ حساب الثورة.. وجاءت الثورة وقلنا إن العنف سيزول بعد المرحلة الانتقالية.. لكن المرحلة الانتقالية طالت أكثر من اللزوم بالنسبة الى الشباب وكافة شرائح المجتمع.. الآفاق ليست واضحة بالنسبة اليهم والمستقبل ميؤوس منه.. الى درجة ان أصبحت غريزة العنف سرعان ما تتحرك فيهم فيكفي أن يقبل فريقهم المحبذ هدفا لتنفجر تلك الغريزة ويحدث ما حدث في سوسة ومن قبلها في جميع الملاعب.
عندئذ نأذن بفتح تحقيق ونتذكّر أننا نظمنا ندوة حول العنف منذ أشهر بقيت توصياتها حبرا على ورق ونكرر ان الردع هو الحل الأمثل.
وننسى اننا قمنا بندوات من قبل وفتحنا تحقيقات وردعنا ولكن ذلك لم يؤد الى أية نتيجة... ننسى دائما أن مشكلة الرياضة في تونس هي أعمق بكثير من ظاهرة العنف أو من أحداث مقابلة في كرة القدم وأنها لن تزول بمجرد تكريم لبطلين أولمبيين هما صنعا أنفسهما قبل كل شيء.
الرياضة تتطلب وضع تصوّر على المدى الطويل لا يهم إن جنت ثماره حكومة الترويكا او حكومة أخرى. المنتفع الأول والأخير سيكون الشعب الذي حكم عليه النظام السابق والنظام الحالي بمجرد مستهلك لما يشبه النجاحات والأرقام الزائفة.
إن تونس اليوم وتونس الغد بحاجة الى مجتمع رياضي بأتم معنى الكلمة وعندما يصبح كذلك سيزول العنف ليس من الملاعب فقط وإنما من كافة الأوساط الأخرى... عندما يصبح مجتمعنا مجتمعا رياضيا سوف يزول ذلك العنف الذي نشاهده في رحاب المجلس التأسيسي وفي الطرقات وفي المقاهي وفي المعاهد وفي الكليات... سوف تصبح تونس كالبلدان المتقدمة يحترم فيها السائق العلامات الضوئية ويعطي الأولوية للمترجل ويبجّل الشاب المرأة المسنّة في وسائل النقل العمومي.
ولا يرمي المواطن بالفضلات في الشارع ولا يقدم على البناء الفوضوي ويبادر بكل تلقائية بدفع ضرائبه ويتجنب فيه البقال وصاحب المطعم الغش ويحافظ فيه الجميع على الحدائق العمومية إلخ... إلخ..
ذلك مبتغى يطول بالتأكيد تحقيقه ولكن ليس من حقنا أبدا ارجاء وضع أسسه وليس من حق وزير القول كما كان يحلو للوزراء السابقين بأن أولويات الساعة لا تترك مجالا للتفكير واستشراف المستقبل.
وإلا فستتواصل حالة اليأس ومعضلة العنف الى ما لا نهاية له.