للانسان فعل يوقّعه التّاريخ وتمجّه الأقلام على الصّفحات ليحفظ ويورّث للأجيال اللاّحقة حتّى تشيّد الذاكرة الجماعيّة وتتشكّل الشخصيّة الّتي تختلف بطبيعتها عن الآخر في الفعل والرؤية للوجود، وباقتفاء آثار فعل الأجداد ترشح حقيقة آمال ولّت وآلام حلّت. أبواب المدينة العتيقة قَضت الاّ القليل منها وسقطت على أيدي الفاقدين لقيمة العمق التّراثيّ الّذين أخذتهم الرّغبة في مسايرة الواقع المادّيّ فآنطفأت فيهم جذوة الارتباط بالماضي لتتغيّر ملامح المدينة وتتشوّه ويعتري القيم مسّ من روح حاضر سقيم اجتثه التّطوّر السّلبيّ من تربته الخصبة ليُستبدل «باب الخوخة» الزّاخر بالرّمزيّة بباب حديديّ وتهدّم الجدران العالية الّتي تقف حصنا منيعا للعين الحادجة الخبيثة والنّوايا المعتلّة تستر وتحفظ قيما دأب من بداخلها على التّمسّك بها لتقام أخرى تكشف من بالدّاخل وتهتّك المستور ليصبح العصيّ على العين سابقا في المتناول حاضرا فتنقلب رؤية المعمار من الانفتاح على الدّاخل الى الانفتاح على الخارج وفي تغيّر الرؤية تغيّر للمنظومة الأخلاقيّة...«الدّار العربي» أنتهك عرضُ جمالِها وبهاؤُها ورمزيّتها وأهيل عليها تراب الجهل والتّنكّر لرفعة ذوق الأجداد والتّعلّة أنّ الضرورات تبيح المحضورات وهندسة الأمس تختلف عن اليوم. وقليل من وَعَى قيمة الارث فرعَى الكنز وحفظه حتّى يبقى شاهدا على المارّين....
انّ مدينة القلعة الكبرى كسائر المدن الأخرى بصدد فقدان هويّتها والملامح الّتي تثبت آنتماءها الى مرحلة من التّاريخ وما فقدان حلقة وصل السّابق باللاحق الاّ تعميق لفجوة من شأنها احداث آنفصام في شخصيّة الأجيال القادمة ليصبح التّراث الثّقافي المادّيّ مجرّد صور يغشّيها غبار النّسيان ويصبح البحث عنها نبش في أجداث قديم السّجلّات...فالضّياع جريمة ثقافيّة في حقّ المسارالتّاريخيّ للأجيال القادمة. قد يبدوزمام المسؤوليّة في الظّاهر بيد البلديّات والسّلط المعنيّة بالثّقافة وحماية التّراث ولكنّ المجتمع الّذي يسعى الى آمتلاك ناصية المدنيّة عليه أن يدرك جيّدا أنّ المسؤوليّة موكولة الى كلّ مكوّنات المجتمع الّتي عليها التّحسيس والتّوعية والتّصدّي للمارقين المتطاولين على الارث الثقافي.. نعي تمام الوعي أنّ ارهاصات المرحلة تصرف النّظر عن مثل هذه المسائل لكن ما بأنفسنا من ارادة التّغيير وحبّ البلاد وتاريخ البلاد لكفيل بأن يبقي على الجذور ويتعهّدها بالرّعاية حتّى تعبق بذكريات تغذي أرواحنا وأرواح من يلينا.
إنّ التّهاون واللامبالاة لا يولّدان الاّ النّدامة والحسرة ولن يغفر لنا التّاريخ ما آقترفناه من ذنب في حقّ حضارتنا وأجيالنا فالبقاء في السّياق التّاريخي يقتضي الحفاظ على الموروث وتقديم اضافة تعكس مدى القدرة على اثات الذات. آمل أن تدرك كلّ الأطراف عمق خطورة المسألة حتّى تحثّ الخطى لرأب الصّدع قبل فوات الأوان.