أصبح التّشويه والتّحريف المصطلحي للغة جزءا من أجزاء الصراع السياسي والإعلامي في الوطن العربي اليوم. وهو أحد مؤشرات التضليل السياسي المعتمدة من قبل بعض الأحزاب لمضامين عديد المصطلحات المتعارف عليها لدى الخاصة والعامة. وتعتمد استراتيجيا التّسطيح اللّغوي والتّشويه المفهومي لها من قبل بعض الأحزاب السياسية كآلية من آليات الصّراع السياسي والاستقطاب والتعبئة للجماهير. وتندرج هذه الاستراتيجيا أيضا ضمن الأيديولوجيات المموّهة التي تسعى إلى أن تحوّل أنظار النّاس عن مشاكلهم الحقيقية وتلهيهم بمسائل ثانوية. ومن خصائص هذه الأيديولوجيا أيضا، أنها غير عقلانية لذلك تنتشر في الأوساط الاجتماعية والسياسية التي يعيش فيها الناس حالات اليأس والاضطراب النفسي والشعور بالخوف من المستقبل. وعدم الدقة في استعمال مصطلح أو مفهوم ما من حيث السياق والمعنى سوف يخدم هذه الأيديولوجيا المموّهة باعتباره يتّصف بالغموض، وبالتالي يمكن استعماله في غير موضعه.
هذه المسألة تنطبق على مصطلح «التطهير» الذي رفعته حركة النهضة يوم الجمعة (07/09/2012) كشعار في إطار ما تسميه ب»اكبس». وهو يندرج في رأينا في إطار استراتيجية «التضليل السياسي» التي تعتمدها هذه الحركة السياسية المهيمنة على الحكومة في تونس اليوم. وتؤكد لنا أيضا أنها بدأت في عملية الانتقال من مرحلة «الديماغوجيا» السياسية التي تعتمدها من أجل التعبئة الشعبية إلى مرحلة الرّقابة والهيمنة على العقول والأنفس، وكذلك السعي إلى الهيمنة على جميع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. فالتضليل السياسي يعدّ من أخطر أدوات القمع الذي تعتمده الأنظمة السياسية الاستبدادية.
لهذا تطرح عملية التطهير عديد الإشكاليات المرتبطة بها لعل أهمّها:
ماذا تعني حركة النهضة ب»التطهير»؟ هل هو تطهير مادي (بشري) أم هو تطهير نفسي وباطني؟ أي ماذا تعني بكلمة التطهير ؟
وكيف يمكن أن نقوم بفعل «التطهير» المادي أو المعنوي ونحن لم نتفق حول معناه ولم نضبط مجالاته: هل هو سياسي أم اقتصادي أم هي فكري وأيديولوجي..؟ وما هي حدود عملية التطهير؟
وكيف يمكن أن نميّز بين مفهوم التطهير ومفهوم «الإقصاء» أي كيف يمكن أن نضمن أن لا يتحوّل الفعل «التطهيري» إلى فعل إقصائي مثلما قام به النظام السابق في مرحلة حكم بن علي؟
هذه العملية «التضليلية» السياسية التي تعتمدها «حركة النهضة» تذكّرنا بقصة «طواحين الهوى» التي كان «دون كيشوت» الشخصية الرئيسية في قصة الكاتب الاسباني «ميجيل دي سيرفانتس» يحاربها. ف«دون كيشوت» (البطل) هو إنسان عاقل وسوي السّلوك في كل شيء إلا في مسألة واحدة وهي «نجدة» المظلومين من البشر. فقد كان يقاتل من أجلهم بكل شجاعة، لكنّه ظلّ في نضاله ،وحيدا وغريبا، باعتباره يمثل نظاما انقض وتهاوى منذ سنين طويلة (نظام الفروسية).
وهذه أولى الخصائص «السلبية» لل»دون كيشوتية». أي محاولة البعض إحياء المفاهيم والمواقف المهترئة حتى يتوهّم الناس أنها «جديدة». ويصوّر لدى العامة بشكل وهمي أن هناك أعداء وظالمين لابد من محاربتهم. كذلك فعل بطلنا «دون كيشوت» في يوم من الأيام عندما صوّر له خياله أن هناك «جحافل» من المعتدين رآهم خلال يوم «ضباب» فانطلق إليها مهاجما ولما اقترب منها طعنها بحربه طعنة كادت أن تكون قاتلة أي قاتلة للسيد دون كيشوت نفسه، إذ لم تكن تلك «الجحافل» إلا صفا من «طواحين الهوى». وقد بقيت هذه القصة مثلا نذكره لكل من يختلق أعداء أو مواقف معادية لا وجود لها.
فالحملة التي يقوم بها حزب النهضة الحاكم تحت شعار «التطهير» ليست إلا نزعة «دون كيشوتية» لتوجيه ضربات عشوائية ضد أعداء موهومين. لأن الأعداء الحقيقيين للثورة مازالوا مهيمنين على مؤسّسات الدولة وباتفاق مع هذه الحكومة حيث حصلت بينهما علاقات ود وتصالح وتوافق دائمين.
أما العدو الحقيقي للحكومة الوقتية فهو الشعب الذي مازال يطالب بما وعد به من تشغيل وعدالة ومحاسبة أو مساءلة وهو ما لم يتم على الرّغم من مرور أكثر من تسعة أشهر من الحكم. بل عادت التوترات الشعبية من جديد نتيجة حالة الانهيار المستمر في المقدرة الشرائية للمواطنين وعدم الاستقرار المالي والاقتصادي..الخ وفي مقابل هذا هناك تجاهل من قبل هذه الحكومة لمشاعر هؤلاء المواطنين المحبطة وآمالهم التي ظلت معلقة في تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.
لهذا نقول إن رفع مفهوم أو شعار «التطهير» لم يكن صائبا من حيث الوقت والأهداف، نتيجة غياب الجدية أو الإدراك الحقيقي لمستويات التطهير الذي ترغب فيه «النهضة الحكومة» على فرضية أن العملية ليست من باب الاستقطاب السياسي والانتخابي. فعدم جدية الحكومة الوقتية في الإعداد لبناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية أصبحت واضحة في المواقف والخطابات و»التهديدات» للمعارضة، وما رافقها من غموض في استعمال بعض الكلمات مثل كلمة «التطهير».فكيف يمكن لهذه الحكومة التي اعترفت بفشلها في فتح الملفات التي تحتاج إلى «التطهير» مرارا وتكرارا (شهد شاهد من أهلها: مثل استقالات بعض الوزراء وكتاب الدولة) من أن تقوم بفعل اعترفت بعدم توفر العوامل والكفايات (الموضوعية والذاتية) اللازمة لإنجازه في الواقع؟
إنّ مفهوم التّطهير بالمعنى الديني للكلمة يعني تنقية الشّيء (الجسم والنفس) من حالة الرّجس. قال تعالى : « إنّما يريد الله لِيذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرًا» (الأحزاب، 33).»وثيابك فطهّر»(المدثر، 04).
والتّطهير بالمعنى السياسي هو العمل على إعادة بناء نظام حياة شعب من حيث الوعي السياسي والتفكير العقلاني والعمل على إنجاز شروط التحول الديمقراطي الحقيقي. فالتطهير السياسي لا يتوقّف على تغيير نظام سياسي بنظام آخر، أو عبر عزل بعض الأشخاص وتعويضهم بآخرين وفق محدّدات حزبية وأيديولوجية، ولكنه قبل ذلك كله هو العمل على إعادة بناء سياسي ومؤسّساتي وحضاري وثقافي وقيمي للمجتمع. كما إنّ التطهير ليس كلمة أو شعارا يرفع أحيانا ويختفي أحيانا أخرى، وإنمّا هو إرادة وقيمة أخلاقية عالية لدى السلطة والمعارضة لتجاوز الأوضاع المجتمعية المتهالكة والمشوّهة.
إذا كانت «قواعد» حزب حركة النهضة الحاكم في تونس تدعو إلى «التطهير» بمعنى «التصحيح الذاتي» (automation) نتيجة وجود خلل داخل الحركة أوفي آليات عملها السياسي فهذا شأنها، باعتبار أن أوّل خطوة للتّصحيح الذاتي والبناء الداخلي لأي حزب سياسي هو النقد الذاتي. أما إذا كان التّظاهر تحت شعار»التطهير» الهدف منه هو تغيير مؤسسات الدولة والمجتمع في علاقة بأهداف الثورة، فإنّ ذلك اعتراف من القاعدة بفشل حكومتها في العمل على تحقيق مطالبها والإيفاء بوعودها أثناء الحملة الانتخابية وهو في جميع الأحوال لن يحلّ المشكلة لأنّ مجالات التطهير ومعاييرها غير محدّدة وليس هناك إتّفاق حولها.
فالتظاهر بالانتصار إلى مبدأ «التطهير» (رغم أننا لا نعرف الهدف منه ولا نعرف آلياته ولا مجالاته بعد)، لا يحجب عنا الحقيقة التالية وهي: إنّ حركة النهضة التي استشعرت خلال الأشهر القليلة الماضية وجود تراجع في مستوى شعبيتها وفشلها في فتح الملفات الأساسية وتحقيق الحد الأدنى من التوافق السياسي مع حلفائها في «الترويكا» الحاكمة بدأت، وبشكل «استباقي»، تستعد إلى العمل على إعادة بناء الثقة في قواعدها من أجل مواجهة الملفات التي ستطرح في قادم الأيام (مثل المصادقة على الدستور، الهيئة العليا للانتخابات وغيرها من الملفات الساخنة الأخرى) والانطلاق في حملتها الانتخابية عسى أن تسبق الأحداث وتلملم بعض الجراح. وهي تعرف أنّ الثورة في تونس لم تبرح مكانها أومرحلتها الأولى أي لحظة الهدم، بل إنّها مازالت لم تنجز عملية الهدم كشرط أوّل في إعادة البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي..الخ. لهذا نلاحظ أن الوضع الانتقالي تسوده حالة من الريبة والضبابية وعدم الجدية، وبالتالي فهو مفتوح على احتمالات النّجاح والفشل.
فمن المضحكات حقا أن نطلب من حكومة قاصرة سياسيا من أن تبني نظاما سياسيا ديمقراطيا بمنطق وجود أشخاص «أعداء» وهميين. فهل يوجد تناقض أكثر من إدانة أشخاص بعدم «الطّهر» أو «الرّجس» بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر من الحكم ومن قبل أشخاص انتهازيين وبمنطق انتهازي؟ «وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا» (الكهف، 05) صدق الله العظيم.
أليس من الأولى على النهضة أن تطهّر نفسها من المنتسبين «النهضاويين الجدد» الذين التحقوا بها من كل صوب وحدب أفواجا متراصة من جميع الاتجاهات والأحزاب؟ فماذا ستفعل الحكومة إذا كانت بعض قواعدها انتهازية وغير «طاهرة» وأغلب مؤسّساتها وإداراتها غير طاهرة؟
فأمام احتداد الصراع السياسي وقرب ساعة المحاسبة للحكومة الوقتية لما أنجزت وما لم تنجز، وفي غياب أي برامج عملية وخطّة سياسية واضحة لدى الحكومة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وعدم إيمانها بالمقاربة التشاركية في إدارة شؤون البلاد وجدت نفسها تعيش حالة من الوهم الزائف لأنها لم تعمل على معرفة حقائق الأمور وطبيعة المشكلات وطرق حلها. وحتى إذا توفرت لديها بعض النوايا «الصادقة» فإنه لا يمكن أن تنجز بها المهام الثورية. فكيف يمكن أن تنجز الحكومة فعلا «تطهيريا» بمنطق المعاداة للشعب والخشية منه كلما انتفض أو عبّر عن مطلب أو طالب بحق أو اشتكى من مظلمة؟
وكيف يمكن أن نتحدث عن التطهير والمجرمون الحقيقيون في الدّولة مازالوا أحرارا؟
لعلّ من أبرز المخاطر التي يؤدي إليها هذا السّلوك السياسي «التطهيري» هو العمل على تجريم كل معارضة فعلية واعتبارها العدو الأوحد طالما أن مفهوم التطهير ينتمي إلى العائلة المفهومية الإقصائية للآخر مثل مفهوم «الإرهاب» الذي تم استخدامه من قبل الأنظمة الاستبدادية العربية والغربية لتجريم كل معارضة سياسية ولو كانت سلمية، وقد كانت الحركات الإسلامية أول ضحاياه.