سوف تظل تونس تحوم حول حلقة من الفراغ والعنف المادي والمعنوي، طالما هي لم تجد حلولا سياسية تقرّب بين الفرقاء الذين يبتعدون عن بعضهم البعض مع كل يوم يمرّ وعوض الانصات لصوت العقل والاعتراف بتعقيدات الواقع، والقطع مع المصالح الحزبية الضيّقة جدّا لا نرى إلا من يزيد في صبّ الزيت على النار، ومن يحيي الفتن في كل تصريح، ومن يؤزم الأوضاع مع كل عمل. إن صناعة الأعداء هي الرائجة جدّا الآن في تونس، وخطاب القطيعة هو المنتشر. وهذا هو أيسر سبيل للمضي قدما في عملية الهدم المتواصلة. أما عن البناء فله شروط أخرى كثيرة عجزت النخبة السياسية عن تحسّس اي شرط منها وراحت بالمقابل تتغنى بتنظيرات سخيفة حول ضرورات الهدم التي لابدّ منها اثر الثورات وحول البناء الذي سوف يشيّد على ركام الماضي.
وتجد مثل هذه السخافات من يردّدها كما تجد من الأغبياء من يقبل بها كما يقبل المريض بأي قرص تنويم يسكّن من ألمه الذي لا يكاد يسكت قليلا، حتى تعاوده اوجاعه بحدة أقوى وبضغط أشدّ.
ولأن الأحزاب المكوّنة للمشهد السياسي في تونس هي في الاصل أحزاب ايديولوجية، وفي أغلبها هي سليلة مدارس منظمة لشعارات، كما أنها كلها لا تدري شيئا عن ممارسة الحكم، وعن تسيير دواليب الدولة، فإنها راحت تمارس الأشياء الوحيدة التي هي قادرة عليها، ألا وهي المعارك السياسية البدائية، وهواية خلق الأعداء، في الداخل وفي الخارج أيضا، ظنّا منها رغم دروس التاريخ حتى القريب منه، أن في هذا السلوك ما يستنفر الناس صوب تحقيق الأهداف الكبيرة، أو ما يغني الشعوب عن الاستحقاقات التي تنتظرها.
ومن عادة هذه «المدارس»أن تتحول الهزائم عندها الى انتصارات، والحاجة الى خير عميم، والفقر الى حصاد وافر، فترى خطابها السياسي يتحدث عن منجزات لا توجد أصلا، وعن وعود لا يمكن تحقيقها، وعن غايات لا تتعدّى التمنّي. لذلك فإنه وحسب هذا الذي يجري في تونس، فإنه لا يوجد أي أمل في أي تغيير حقيقي، إلا في العودة الى المركب الذي يغرق فيما الربان يصيح بأن الوصول الى الشاطئ قريب!