كنا معا في أحد مقاهي المدينة نرتشف قهوة الصباح ونتبادل الحوار والرأي حول تونس الثورة عندما جاء هاتف لصديق الصباح د. عفيف البوني وقد زفّ إليه نبأ حصوله على تأشيرة الموافقة لإصدار مجلة تحت عنوان «قضايا استراتيجية» فنهض مسرعا ليذهب الي وزارة الداخلية ليأتي بالتأشيرة والفرحة تغمر صدره. ولما كانت وزارة الداخلية لا تبعد إلا مسافة قليلة عن مقهانا الصباحي ترك أوراقه وصحفه على الطاولة واستأذن بالذهاب ليأتي بهذه التأشيرة السحرية التي حلم بها. أعرف أنه ومنذ أن كان مشرفا على مجلة الجامعة العربية بمعية مفكرين أمثال د. غسان عطية ود. زكي الجابر وخروجه منها بعد انتقال الجامعة الى القاهرة بأنه ظلّ يحلم بمجلة فكرية لكنه لم يحصل عليها ولم يتحقق حلمه إلا بعد الثورة.
كان الكثيرون يهرعون للحصول على تأشيرات صحف وحصل عليها بعض من لا قيمة إعلامية ولا ثقافية لهم لذا رهنوها لصراعات رجال الأعمال وتصفيات الحسابات التي لا دخل لأي قارئ بها، ولكن تلك مسألة أخرى، فصديقنا د. البوني ذهب الى الاختيار الصعب بإصدار هذه المجلة التي تنصّ هويتها بأنها (مجلة شهرية فكرية مستقلة وجامعة تعنى بالبحوث المستقبلية والدراسات الاستراتيجية ومقالات الرأي) ثم ها هو العدد رقم (6) في المكتبات، وأن يتواصل إصدار مجلة من هذا النوع (مستقلة) فعلا ليبلغ ستة أعداد فهذه مسألة تستحق الثناء.
عندما أهداني الصديق د. البوني العدد (6) «بشيء من الألم: ربما يكون هذا آخر عدد صدر من المجلة»! ومن يسمع خبرا كهذا خاصة بالنسبة الى من عرف فرحته الأولى وهو يضم الى أوراقه تأشيرة الإصدار سيشعر بالألم. ليس السبب في أنه لم يجد الدراسات التي تغذي مجلته إذ هناك أسماء تحمّست لمشروعه وآزرته بكتاباتها واقتراحاتها، وبدا لمن تابع المجلة أن كل عدد جديد أثرى من سابقه. إن السبب لو حصل وتوقف هذا المشروع الجاد الذي يشكل حالة متفرّدة في تونس الثورة هو أن المجلة لا تحظى بدعم، وأن لجنة الشراءات في وزارة الثقافة تكتفي بشراء مائة عدد، كما أن المجلة وهي موجهة الى النخبة لا تحقق مبيعات عالية من شأنها أن تسدّد جزءا من قيمة الطبع المرتفعة. لا أريد أن أكون محل صاحبها وناشرها لأقدم أي اقتراح بشأنها من أجل أن يتواصل صدورها فهذا متروك له، ولكنني أعرف مسألة واحدة هي أن هذه المجلة مشروع تونسي، يحمل اسم تونس، وينتسب الى ثقافتها فلذا يجب أن لا يفرط فيه لأي سبب من الأسباب وهو مازال يشق طريقه ليحقّق المكانة العلمية والفكرية المتوخاة منه. نعم، أؤكد على أن هذه المجلة مشروع تونسي، يجب أن يحظى بالعناية والدعم من أجل أن يتواصل، ولا بدّ من إيجاد منافذ توزيع للمطبوع التونسي الجاد أسوة بالمجلات المصرية واللبنانية والخليجية التي تصل تونس بانتظام وأصبح لها قراؤها ومتابعوها.
مجلة «قضايا استراتيجية» تجربة جديدة على الثقافة التونسية حيث لم تعرف فيها إلا المجلات الأدبية العامة، أمثال: الفكر، قصص، المسار، الحياة الثقافية ثم الفكر الحر. مجلة «قضايا استراتيجية» تذكرنا بمجلات بعضها غاب وبعضها الآخر مازال يواصل الصدور أمثال «آفاق عربية» (العراق) التي أسّسها المرحوم الشاعر شفيق الكمالي ومجلة «دراسات عربية» (لبنان) التي أسّسها المرحوم د. بشير الداعوق، و«قضايا عربية» (فلسطين) التي أسسها المرحوم الدكتور عبد الوهاب الكيالي وأصدرها من بيروت حيث اغتاله الموساد.
إن قراءة فهرست العدد (6) تقدم لنا الاهتمام الجاد لهذه المجلة بموضوعات ساخنة حيث يتناولها الباحثون بأناة وتبحّر تجعل المعنيّ يحترم ما ذهبوا إليه حتى لو تقاطع مع قناعاتهم ومنطلقاتهم الفكرية. مجلة «قضايا استراتيجية» مجلة تونسية ولدت لتبقى.