مع بدء مناقشة المجلس التأسيسي مشروع القانون الخاص بإحداث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ومع تقديم مشروع القانون الأساسي حول العدالة الانتقالية وبعد إعلان تفعيل مرسوم إحداث هيئة الإعلام السمعي والبصري، هل يمكن القول إنّ السلطة القائمة خطت خطوة مهمة نحو تأمين ما تبقى من مسار الانتقال الديمقراطي؟ من بين المطالب التي ترفعها المعارضة وأطراف سياسية وحقوقية منذ أشهر التعجيل بإنشاء هيئة عليا مستقلة لانتخابات قصد البدء بإجراءات التحضير للانتخابات المقبلة وتقديم رسائل طمأنة إلى التونسيين وإلى مختلف مكونات الساحة السياسية بأنّ الانتخابات القادمة ستكون حرة ونزيهة وشفافة وأنّ التجاذبات الحاصلة اليوم لن يكون لها تأثير سيء على المسار الديمقراطي وعلى سلامة الانتقال نحو الديمقراطية.
بطء... أم خطوات ضرورية؟
وقد اتهمت المعارضة مرارا «الترويكا» الحاكمة بالبطء في البت في المسائل الأساسية وفي رسم خارطة طريق للمرحلة المقبلة بما في ذلك حسم مسألة الهيئات الخاصة بالانتخابات والعدالة الانتقالية والقضاء والإعلام اعتبارا لأهميتها ودورها في تأمين المسار الانتقالي، لكن الحكومة اعتبرت أنّ نسق عملها في هذا الباب عادي وأن خطوات ضرورية لا بدّ من اتباعها قبل عرض مشاريع هذه الهيئات للنقاش في المجلس التأسيسي.
الحكومة أعدّت منذ أوت الماضي مشروع القانون الخاص بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات لكن عرضه للنقاش بالمجلس التأسيسي تعطّل لعدة اعتبارات منها العطلة البرلمانية وارتفاع نسق عمل اللجان التأسيسية لاستكمال مسودة الدستور فضلا عن القضايا الجانبية التي تُعرض للنقاش داخل المجلس والتي تعطّل سير عمله التأسيسي والتشريعي معا. ويؤكّد خبراء أنّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تحتاج مدة تصل إلى 8 أشهر للقيام بالإعداد اللوجستي للانتخابات القادمة وبالتالي فإنّ الحديث عن تحديد موعد للانتخابات يصبح غير ذي جدوى في غياب هيئة للإشراف عليها.
ووجدت «الترويكا» نفسها مجبرة على تقديم خارطة طريق للمرحلة القادمة خصوصا بعد الضغوط التي مارستها المعارضة وحديث شق منها عن انتهاء الشرعية بعد 23 اكتوبر 2012 حتى انتهى الأمر إلى تحديد 23 جوان 2013 موعدا للانتخابات وفق مقترح لتنسيقية أحزاب الترويكا المجتمعة منتصف أكتوبر الماضي، لكن «الترويكا» لم تراع في تحديد هذا الموعد غياب الهيئة إلى حدّ الآن ولم تقدّر الوقت اللازم لإحداثها ومباشرتها عملها ومن ثمة ما تحتاجه من وقت لتحديد موعد الانتخابات الذي يبقى فنيا من اختصاص الهيئة وسياسيا من مهمات المجلس التأسيسي.
وتأمل الأوساط السياسية في تونس أن يتم التوافق على مختلف النقاط الخاصة بتشكيل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في أسرع الآجال وبعيدا عن منطق التجاذبات السياسية حتى تبدأ الهيئة عملها وتضع استراتيجية العملية الانتخابية من الآن وهو ما يوفر مناخا هادئا وملائما لمختلف الفرقاء السياسيين لاستكمال مناقشة مسودة الدستور والتصويت عليها كخطوة ضرورية للمرور إلى انتخاب السلطات الجديدة وإنهاء المرحلة الانتقالية.
ثمرة الحوار
وفي سياق متصل وبعد أسابيع من الحوار الوطني في الجهات حول ملف العدالة الانتقالية تم قبل أيام تقديم مشروع القانون الأساسي للعدالة الانتقالية إلى الوزير سمير ديلو ومنه إلى الحكومة ورئاسة الجمهورية قبل عرضه على المجلس التأسيسي.
وقد شمل مشروع القانون الأساسي عنوانيْن أساسيْن الأول خاص بالمبادئ العامة لأسس العدالة الانتقالية والثاني متعلق بإحداث هيئة ستشرف على مسار العدالة الانتقالية اقترح تسميتها «هيئة الكرامة والحقيقة».
وتضمنت أبواب المشروع تركيبة الهيئة ومهامها واختصاصاتها ومجالات تحركها، وستصدر «هيئة الكرامة والحقيقة» تقارير ذات صبغة رسمية. ويحتوى المشروع المقترح حسب المنسق الإعلامي للجنة الفنية للإشراف على العدالة الانتقالية هشام الشريف عدة عناوين كأسس العدالة الانتقالية ومفاهيمها المرتبطة بكشف الحقيقة وحفظ الذاكرة وجبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا إضافة إلى وضع آليات المساءلة والمحاسبة.
كما يتضمن المشروع المقترح إحداث دوائر مختصة صلب المحاكم العدلية يعهد إليها بالنظر في القضايا المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وسن نصوص قانونية تتعلق بإصلاح المؤسسات بهدف تفكيك منظومة الفساد والقمع بشكل يضمن عدم تكرار الانتهاكات.
ويدعو المشروع إلى إنشاء هيئة عمومية مستقلة للحقيقة والكرامة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي تتعهد بالنظر في الانتهاكات التي حصلت خلال الفترة الممتدة من 1 جانفي 1955 إلى غاية تكوين الهيئة.
وتتركب الهيئة التي حددت أعمالها ب 4 سنوات قابلة للتمديد بسنة واحدة من 15 عضوا هم قاضيان ومحام وأستاذ جامعي مختص في الحقوق وآخر مختص في علم الاجتماع وآخر في التاريخ وممثلان عن الجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان وممثلان عن الضحايا ومختص في علم النفس وخبير في الاقتصاد إضافة إلى 3 من ممثلي قطاعات أخرى.
تحديات أمام الحكومة
وتسعى الحكومة إلى أن تكون تجربة تونس في مجال العدالة الانتقالية تجربة فريدة من خلال الاستفادة بتجارب دول أخرى دون اقتباس تجربة بعينها وإسقاطها على الواقع التونسي وإنما عبر فتح حوار وطني واسع وعبر تشريك مختلف مكونات المجتمع المدني قبل صياغة التصور الممكن لإدارة ملف العدالة الانتقالية.
وقد شككت أطراف في المعارضة وأخرى من المجتمع المدني في المسار الذي اتبعته الحكومة في ملف العدالة الانتقالية، حيث اتهماها في البداية بوضع يدها على الملف وإقصاء المجتمع المدني من المشاركة في تقديم رؤيته كما اتهمتها بالبطء والانتقائية في فتح الملفات ومعالجتها وفقا لما يقتضيه مسار العدالة الانتقالية، فيما رأت الحكومة أنّ الخطوات التي اتبعتها من استشارات وندوات وطنية مع مختلف الأطراف الممثلة للمجتمع المدني والمعنية بملفات الضحايا والتعويض وجبر الضرر وصولا إلى إجراء الحوار الوطني في الجهات كانت المسار الأمثل لوضع تصور موضوعي للعدالة الانتقالية ولإنشاء هيئة مستقلة في هذا الباب.
ولا تزال أمام الحكومة تحديات كبرى لاستكمال تأمين المسار الانتقالي بالمصادقة على الهيئة المؤقتة للإشراف على القضاء العدلي وإنشاء الهيئة المستقلة الخاصة بقطاع الإعلام، ضمانا لاستقلالية هذين القطاعين واعتبارا لخطورة دورهما في هذه المرحلة الانتقالية.