يؤكّد الأستاذ الحبيب الجنحاني ونحن ما زلنا عند عتبات كتابه « دفاعا عن الحريّة» مقولة اشتهرت هي «إنّ الحرّيّة لا تنزل من السّماء بل يصنعها البشر». ولذا فهي مهدّدة دوما ومحتاجة الى مدافعين شرسين. ويقسّم المؤلّف كتابه هذا إلى أربعة أقسام منبّها إلى اختلاف سياقات فصولها نظرا لصدورها متتالية في الصّحافة ولم تخضع إلى نفس واحد، حتّى وإن جمع بينها ذات الأسلوب والتّركيز على موضوع موحّد هو الحرّيّة. ونجده يبدأ من أوّل الفصول بمهاجمة الأنظمة الاستبداديّة التي اشتهر بها العالم العربي ويذمّ قادتها، سواء منهم الذين « يأكلون الدّنيا بالدّين»، أو مؤسّسو النّظم القهريّة ورعاتها. ثمّ طرح المؤلّف في القسم الثاني جدليّة الثّورات والحريّة باعتبار السّببيّة الرّابطة بينهما، ولأجل ما يهدّد مكاسب الثّورة من العواصف الهوج، ومحاولات الرّكوب عليها أو إيقاف مسيرة الحرّيّة التي أنجبتها. ومن هنا تأتي مشروعية العناوين المتسائلة مثل «الثّورات العربية إلى أين؟» أو المنبّهة مثل «حذار أن تسرق الثّّورة». فعواقب الثّورات ليست دائما مضمونة في مجتمعات ألفت الخنوع وتقاسمتها الصّراعات، ووقفت تترصّدها الأطماع الخارجيّة. وعند اهتمامه بقضايا الانتقال الدّيمقراطي الذي يعرّض المجتمع لاهتزازات وتمزّقات وصراعات كثيرة غير مأمونة العواقب يحضّ المؤلّف على التّمسّك بمقولتين هما: ضرورة الوفاق بين جميع القوى الوطنيّة لمنع الانزلاق في مستنقع الصّراع الدّيني، وإبقاء الصّراع سياسيّا فكريّا. جعل الوطن ومصلحته هي العليا، والوقوف سدّا منيعا في وجه من يحاولون المسّ من مكاسبه أو اللّهث وراء السّلطة . ومن رأي المؤلّف أنّ الوعي بهذين العنصرين الأساسيين هو من باب التّثقيف السّياسي الواجب على المنظّمات المدنيّة تقديمه للمجتمع، ليستطيع التّفريق بين الدّعايات السّلبيّة والإيجابيّة في مراحل الانتخابات، ومواجهة الحملات الحزبية، ومحاولات التّعتيم على ما في الزّوايا من خبايا. لذا فأكثر ما ركّز عليه الكاتب هو عنصر الانتباه وشدّة الحذر من خروج الثّورة عن مسارها الإصلاحي، ووقوعها في بؤر الانتهاز والمزايدة والخيانة، ولذا كانت أهمّ فصول القسم الثّالث من الكتاب تحمل عناوين مثل «من يحرس الحارس؟» و«خطر الانزلاق» و«حارس الوطن». القسم الرّابع « الإسلام بين التّسييس والتّجديد الفكري» أخذ أكبر حيّز في الكتاب، وبرّر المؤلّف ذلك بسبب الخطاب السياسيّ الماضويّ الذي شاع وأشاع الخوف من توظيف الدّين للسّياسة « بعد أن فتحت الثّورات العربيّة الأبواب أمام حركات الإسلام السّياسيّ لمباشرة السّلطة»، وهو خوف لا يعتبره الكاتب «نابعا من موقف نظريّ بحت، بل من قراءة نقديّة للفكر السّياسيّ الإسلاميّ منذ مؤتمر سقيفة بني ساعدة حتى اليوم». ثمّ يعالج المؤلّف أهمّ مشكلين يتحكّمان في إمكانية تعامل الإسلام بنجاح (أو إخفاق) مع المجتمع: أوّلهما يتعلّق بتقلّبه مع ظروف الحياة محلّيّا، بحيث تتحدّد طرق تعامله مع السّياسة حتّى يمارس المؤمنون شعائرهم بمنأى عن التّوظيف . فالإسلام في جوهره ليس مجرّد نصوص ومقولات معزولة عن الواقع البشري الذي يخضع بطبعه إلى تلوّنات الزّمان والمكان . وثانيهما يتعلّق بطريقة تعامل الإسلام مع الظّروف الكونيّة قبولا أودحضا، فهو لم يرفض التّقاليد المتأصّلة في الأقاليم التي دخلها بل قبلها وتبنّاها أحيانا، كما في طرق اللّباس والمأكل والمعاملات المالية والتّجاريّة. فكيف لأهل زماننا أن يضبطوا بالتّوثيق اللاّزم لباس السّلف ليقتدوا به، وكيف للبنوك اليوم ضبط الحساب بالشهور القمريّة لحصر مقادير الزّكاة على الأموال، فما بالك بزكاة الإبل التي ذكرها الكاتب متندّرا. وفي علاقة الإسلام بالمجتمع يثير المؤلّف مسألة الاجتهاد الذي توقّف منذ القرن السادس الهجري إضافة إلى إخفاق كل محاولات التّوفيق بين معالم التّحديث الأوروبي وبين التّراث الإسلامي، بحيث لم يستطع المصلحون من روّاد اليقظة العربية الإسلاميّة رغم احتكاكهم بالحضارة الغربية وتأثّرهم بقيم الحداثة طيلة القرنين 19 و20 تذليل عقبتين عسيرتين هما: القضاء على الحكم المطلق، وتثبيت المفاهيم الأوروبية الحديثة مثل المواطنة والدستور والبرلمان والسلطة المنتخبة واحترام الحريّات العامّة والرّبط بين الظّلم السّياسيّ والخراب العمرانيّ. إنّها قضايا جديرة بالمتابعة .