عجيبٌ أمرُ «أقوى حكومة عرفتها تونس»! طالبتها المُعارضة بتحويرٍ وزاريّ فقالت إنّه ليس مطلبًا شعبيًّا! طالبها الشعب بتحوير وزاريّ فقالت إنّه مطلب المُعارضة! تُرى ماذا تقول الآن بعد أن أصبح التحوير الوزاريّ مطلب أحد الأحزاب الحاكمة؟! لنلتمس عذْرًا للجميع ولنُرجّح أنّ الوعيَ عادَ إلى معدنه ولنقل إنّ القراءة الموضوعيّة للوضع السياسيّ الراهن جعلت من التحوير الوزاريّ «شرًّا لابدّ منه» حتى في نظر الحكومة.. على أمل أن لا يتمّ هذا التحوير بعد الانتخابات القادمة!
المشكلة أنّ مطلب التحوير الوزاريّ الذي اعتبره أحد أعضاء الترويكا شرطًا من شروط البقاء في الحكومة، لم يمنع بعض الوزارات من العمل منذ مدّة دون وزيرٍ أصلاً! فلماذا التحوير إذا كان التوزير نفسُه زائدًا على الحاجة؟!
التعميم مرفوضٌ طبعًا، إلاّ أنه من الصعب الدفاع عن أداء معظم الوزارات الحاليّة لمواجهة استحقاقات هذه المرحلة الصعبة. وهذا وحده كافٍ لتبرير تحويرٍ وزاريّ عاجل. لكن لماذا طال انتظار هذا التحوير؟ وأيّ تحوير نريد؟
السؤال الأوّل ملحّ جدًّا لأنّ في كلّ تأخير حاجزًا يقف في وجه عُبور هذه الثورة إلى ما به تكون ثورةً حقًّا. قد يكون لهذا التأخير أسبابه «الإنسانيّة»، إذا سلّمنا طبعًا بأنّ السياسة تُبقي في المُصاب بها على فضلةٍ من الإنسان! ولعلّ أصحاب القرار لا يُحسَدون على موقعهم حين يتعلّق الأمر بإقالة وزراء قاسموهم الماء والملح السياسيّين طيلة أشهر! ماذا يقول أحدهم لزملائه «المحوَّرين»؟ وقفتَ معي وقت الشدّة وهذا جزاؤُك؟ أخطأت وهذا عقابك؟ أنت ورقةٌ احترقت ولابدّ من تغييرك؟ أنا في حاجة إلى إخلاء مقاعد للحلفاء الجدد؟
كيف يُقنع بعضهم بالتنازل عن الكرسيّ وأكسسواراته التي تنازل عن كلّ شيء من أجلها؟ هذا إذا لم نفكّر في الوجه الثاني من المسألة. أعني صعوبة إقناع الخصوم بالتحوّل إلى موالين. ولماذا يراهن أولئك بمستقبلهم السياسيّ؟
دون أن ننسى أهميّة الرصيد البشريّ. فقد يرغب رئيس الحكومة في إجراء تحوير وزاريّ دون أن يجد البدلاء. إذ ليس لكلّ فريق ما يكفي من اللاعبين الكبار على مقعد الاحتياطيّين!
من ناحية أخرى يمكن القول إنّ التحويرات الوزاريّة شبيهة بعمليّة خلط الأوراق أو «التمشكية» في دارجتنا البليغة. ويعرف فرسان لعبة «الشكبّة» عندنا (وتعني المكنسة في الإيطاليّة) أنّ إطالةَ «التمشكية» قد تُخفي رغبةً في «تركيب الكارطة» أي ترتيبها بحيث يتمكّن اللاعب من «كنس» الطاولة!
هل يكون التأجيل المملّ الذي طال عمليّة التحوير الوزاريّ المنتظر جزءًا من «التمشكية» التي يُراد من ورائها تركيب الكارطة السياسيّة؟ ام أنّه محاولةٌ لتمرير تحويرٍ وهميّ لا يطال الوزارات السياديّة التي يُطالب الجميع بحياديّتها لتأمين العبور إلى المرحلة القادمة في كنف الوفاق والطمأنينة؟ أمّا سؤال نوعيّة التحوير المطلوب فهو لا يقلّ إلحاحًا عن سابقه خاصّة في ضوءِ ما أخذ يترسّخ من اعتقادٍ، له أكثر من مبرّر، بأنّ الحزب الحاكم يريد توظيف السلطة التشريعيّة لإقصاء خصومه! ألا يحتّمُ ذلك تحييد الوزارات الأساسيّة، أي السلطة التنفيذيّة، كي لا يتمّ توظيفها هي أيضًا؟
التحويرات الوزاريّة في معظم بلاد العالم جزء من إدارة اللعبة السياسيّة. إنّها إشارة رمزيّة للاعتراف بخطإ في الكاستينغ أو في التوجّه. وهي طريقة لرصّ صفوف النخبة الحاكمة أو لإعادة بناء الثقة كلّما اهتزّت بين الناخب وممثّليه.
كما أنّها وسيلة لتصحيح المسار وحلّ الأزمات. وهي لا تكون كذلك إلاّ إذا تمّت في الوقت المناسب وطالت مواقع خلافيّة يُعتَبَرُ عدم تغيير أصحابها جزءًا من المشكلة. في لعبة ال«فوتبول» قد يُدخل المدرّب تعديلاً على فريقه لأسباب ماديّة أي للتخفّف من كلفة أحد النجوم، أو لأسباب سيكولوجيّة رغبةً في التخلّص ممّن يغلّبُ اللعب الفرديّ على اللعب الجماعيّ، أو لأنّه في حاجة إلى لاعبين جُدد يمدّون الفريق بالنجاعة المُفتَقَدة ويُدخلون الطمأنينة والسعادة على قلوب الجمهور.
وأيًّا كان السبب فإنّ تعديل التشكيلة الكرويّة لا يكتسبُ معنًى إلاّ إذا طال المراكز الحسّاسة مثل مركز صانع الألعاب أو خطّي الدفاع والهجوم. فهل يختلف الأمر عن تعديل التشكيلات الوزاريّة؟ وهل من معنًى لتحويرٍ لا يطال الوزارات الأساسيّة مثل الداخليّة والعدل والخارجيّة؟ وهل من جدوى لتعويض «ملتقطي الكرة» سواءٌ تعلّق الأمر بالفوتبول أم بالسياسة؟!