أصيب العرب بهزّة، عندما قصفت غزّة، فصرخت الحناجر،واعتلى الخطباء المنابر، هذا يحمّس العباد ، وذاك ينادي للجهاد ، لنصرة غزّة ونجدتها، لدحر الممثّلين بجثّتها. وبثّت التّلافز مناظر الخراب، أطلالا وجثثا بلا حساب، أمثولة يقدّمها العدوّ كالعادة ،ولإسرائيل في الإجرام ريادة . في الأثناء...ماذا فعل العربان،وكيف تصرّف الإخوان؟ هاجوا وماجوا ، اجتمعوا وافترقوا، بدون أن يتّفقوا ، لكلّ فرقة منهم دوافع، وفي أزمة الحال مطامع . ما قال قائل سأسحق الأعداء، بجيش يملأ الفضاء ، وأسلحة تدكّ الأرجاء، وليس إلاّ الهراء و العواء، وليس إلا يا صلاح الدّين آه...آه،وليس إلاّ وامعتصماه . أمّا في تونسالعالية المقام ، فلنا رجال أعلام، يجيدون الجهاد بالكلام . في تونس مظاهراتنا جحافل وأقوام ، بلافتات مرفوعة ، وهتافات مسموعة ، أشهرها « خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سيعود «، يوم هيعة المطار ، في استقبال إسماعيل هنيّة المغوار. تصوّروا لو جاءتكم تلك الوفود يومها رفدا،وكانوا بالآلاف عدّاّ، لو جاءكم المنادون بالجهاد معهم جندا، لكان سعيهم أصلح ، وعملهم أفلح ، من بذل النّفس دفاعا عن ذات خمار ، أو لمطاردة لصّ و خمّار. ما حيلة العاجز القاعد، إن شكوت له الشّدائد ، وانعدام المساند، غير أن يواسيك ، ويطلب الله أن يعافيك ، فلو كان له كسب لأعطاك،أو جيش قويّ لحماك ، ولكنّ بلادنا لا تملك هذا ولا ذاك. وإنّما نحن في تونس، نرى كيف يأكل الحوت يونس، وكيف ردّت السّفن التّركيّة على أعقابها، بل قتل بعض ركّابها ، اعترضتها إسرائيل بعناد ، فلم توصل لغزّة الزّاد ، مع أنّ تركيا قويّة، أسلحتها أطلسيّة. ونحن نرى مصر الجوار، الأقدر على النّجدة والثّار، مرّة تقفل أبوابها ومرّة تفتح، وكلّ تهدئاتها لم تنجح، وفي جمع الفرقاء لم تفلح، فهي تنظر إلى غزّة بعين الحائر، وتتقبّل لطمات جارها الجائر ، مكبّلة بالوثائق الممضيّة، وأحوالها الاقتصاديّة. ونحن نرى الضّفّة الغربيّة، في عيشة مرضيّة، تنظر إلى الجانبين ، مكتوفة اليدين ،ليس لها ما تستطيع، وهي المغاضبة للجميع، الغارقة في بحر مشاكل ، المغلولة الأرساغ والكواحل. ونحن نرى العربان شذر مذر، يحوطهم الخطر ، ولا من اعتبر،أو حاول درأه بما قدر، يهدرون ثرواتهم في غير ما ينفع، ولا يبحثون عمّا يجمع، تفرّقهم الأهواء والنّعرات، ولا تجمعهم إلاّ الأزمات، وياليتهم إذ يجتمعون لا يتخاصمون، وإلى العقل يحتكمون(٭ ٭). رأينا ما رأينا من حال الجميع ، فقلنا لنفعل ما نستطيع، ولنا من طرق المواساة ما نبيع، وعقدنا عزيمتنا الشّهيرة، فتونس كانت لفلسطين دوما نصيرة، وقلنا جاد الفقير بما عنده، إذ لا سلاح لنا ولا عدّة، وبعثنا لإخواننا وزراء خفاف الظّلّ، ممن يحسنون الكلام، وكثرة الابتسام، يقودهم وزير خارجيتنا الهمام . رأيناهم في معبر كأنّه الصّراط، الواحد تلو الآخر في انضباط، وبأيديهم محافظ وملفّات، كالذّاهبين لإنجاز مشروعات. ثمّ طافوا برمم البنيان ، وآثار العدوان . زاروا المصحّات وعزّوا في الأموات، متنقّلين في أفخم السّيّارات، وانتهت الزّيارة بالتّقبيل الحارّ ،وأخذ الصّور مع كلّ عابر ومارّّ ، مع كلام معسول ، وابتسامة لا تزول . وعاد الوفد مرتاح الضّمير، كمن قام بعمل ليس له نظير،ستهتزّ له فرائص العدوّ المغير، خاصّة إذا أصابته سهام عروس الوفد، وأشعرته بأنه وحش ووغد، إذ رشقته بالقول الموزون، نتفاعل مع شعب غزّة بتفاعل فعلي ونحن فاعلون ، وبهذا التّهديد ختم الوفد التونسي الزّيارة، واعدا الإخوان بأنّهم عند الإشارة ، سيرسلون لهم شعب تونس بكامله ، يقرأ لهم الشّعر ويعلّمهم الابتسام ، مهما اشتدّ الظّلام...وهل يملك غير ذلك؟ هنا تذكّرت أغنية مغربية تقول: يابنت النّاس أنا فقير ، دراهم يومي معدودة إنّما قلبي كبير ، بحر شطآنو ممدودة (٭) للكتابة الأدبية مراوغات لاستخراج السّخرية من أحلك الحالات الدّراميّة، وأدب المقامات يؤدّي هذا الدّور، ونحن نستنجد به للتّخفيف من ظلامية حالنا. (٭ ٭) «هؤلاء لم يقدّموا فلسا واحدا للقطاع، ولم يعمّروا بيتا تهدّم أثناء العدوان الإسرائيلي في شتاء 2006، ولم يكسروا حصارا خانقا ومذلاّ مستمرّا منذ عشر سنوات.» عبد الباري عطوان.( جريدة القدس)