قال صاحبي: تناول حوارنا في ما سبق بداية سقوط الدولة انطلاقا من مؤشرات ملموسة لا يختلف حولها اثنان، وتكاد تكون في أوساط العارفين بقضايا السياسة، وشؤون الدولة محل اجماع، أو يكاد، ولكن قد طفحت فوق السطح مظاهر أخرى مريبة تسمح بالحديث عن بداية سقوط الثورة، وليس الدولة فحسب.. قلت: كيف ذلك ؟
قال صاحبي: انه من المعروف أن أبرز مكسب حققته ثورة الشباب التونسي يتمثل في تدشين مرحلة تاريخية شعارها الأسمى والأسنى: افتكاك حرية شعبهم بعد أن واجهوا بصدور عارية نظاما قمعيا يصنف ضمن أشرس النظم الاستبدادية التي عرفها التاريخ المعاصر، ثم أشع هذا النموذج التونسي على الفضاء العربي بأسره لتنتفض شعوبه ضد المستبدين..
من يصدق بعد هذه الملحمة الشعبية البطولية أن يخرج على الناس، ومن أعلى منبر في الدولة من يقول: ان معارضة ولي الأمر، ولو كان فاجرا ظلوما، ضلالة، وفساد في الأرض، وأن اضراب الجوع حرام !!
قلت: سيطرت الدهشة على من قرأ هذا الكلام الغريب، وتعمقت الريبة عندما لم يقرن بالاشارة الى أن صاحب الدعوة قام من كرسيه مزمجرا ومنددا، وهو المعروف بصلابته في مقاومة الاستبداد سنوات طويلة؟ قال صاحبي: لعله اكتشف القوى الداعمة اليوم لموجة زحف دعاة المذهب الأصولي فصمت على مضض ؟
قلت: لا أظن ذلك، وما يزال المواطنون ينتظرون توضيحا وتفسيرا..
ان دعم هذا المذهب للسلطة السياسية ولو كانت غير شرعية ليس جديدا، وهو يندرج ضمن تلك الفتاوى التي طلعت علينا تكفر المظاهرات الشعبية في مصر، وفي اليمن، وفي سوريا، والغريب أننا لم نسمعها تندد بتدخل الحلف الأطلسي في الشقيقة ليبيا..
قال صاحبي: قبل أيام قليلة سمعنا أحد شيوخ الافتاء في الخليج يتهم المتظاهرين والمعتصمين بالضلالة، ولكن ما لا أفهمه هو انتساب هذا التيار الى عالم جليل من علماء الاسلام هو الشيخ ابن تيمية (661-728 ه)، كيف تفسر ذلك ؟
قلت: لعلك تذكر أنني كتبت في هذا الفضاء نصا بعنوان «ابن تيمية المفترى عليه» أوضحت فيه ضرورة قراءة آرائه في زمانه، زمان تفكك العالم الاسلامي، وضعفه أمام الحروب الصليبية في المشرق، وحركة الاسترداد في الأندلس، ثم ان آراءه عرفت تطورا، فمن يزعمون اليوم الانتساب اليه زورا وبهتانا ينتزعون آراءه من سياقها التاريخي، ومن المعروف أنه خالف الحنبلية في قضايا أساسية من أبرزها ذهابه الى أن النص القرآني ليس نصا مغلقا، بل هو نص مفتوح قابل للتأويل والاجتهاد، ولكنهم يتجاهلون عن قصد هذه الآراء الجريئة..
لا أدري من يدعي اليوم الاقتداء بالشيخ الامام هل يعلم أنه مات معتقلا بقلعة دمشق لأنه وقف في وجه استبداد السلطة، وحرصت لهذا السبب أن أقرأ يوما ما الفاتحة على قبره..
بودي أن أعرف رأي من يفتي اليوم بضلالة المعارضين للسلطة المستبدة ماذا يقول في صحابي جليل مثل أبي ذر الغفاري الذي عارض الخليفة الراشدي الثالث بعد أن اتهمه المسلمون بأنه خالف سيرة صاحبيه: أبي بكر، وعمر (ر. ع.)، ومات منفيا في صحراء الربذة، وهل يتهم الصحابي الجليل عمار بن ياسر بالضلال، وقد عارض معاوية بعد أن رفض شرعية بيعة الامام علي، وقتل في صفين، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، وماذا يقول في عدد من كبار التابعين الذي تصدوا للاستبداد، وتوريث السلطة مثل التابعين الأجلاء: سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وغيلان الدمشقي، وغيرهم كثير، فهل هؤلاء من أهل الضلالة لأنهم قاوموا الاستبداد ؟