بقطع النظر عن تداعيات إلغاء الاضراب العام على المشهد السياسي في تونس فإن تقييما أوليا سيفضي حتما إلى تحديد الأطراف التي خرجت منتصرة والأخرى التي خسرت في معركة الأسبوع الفارط. قد يبدو للوهلة الأولى ان أكبر الخاسرين في قضية الإضراب العام هو الاتحاد العام التونسي للشغل وهو استخلاص مشروع ومنطقي بالنظر الى حجم التحدي الذي رفعته المنظمة النقابية.
والحقيقة ان العديد من الملاحظين يعيبون اليوم على اتحاد الشغل اتخاذه لقرار الاضراب العام في لحظة تشنّج لم ترتق الى التجربة الكبيرة التي اكتسبتها المنظمة في التعامل مع مثل هذه الوضعيات.
هذا الأمر الذي اعتبره نفس الملاحظين بمثابة الخطإ التكتيكي هو الذي أفرز الفشل الذريع لأعمال الهيئة الإدارية المنعقدة يوم الاربعاء 12 ديسمبر وأفضى الى إلغاء الاضراب العام.
لقد أدى هذا الارتباك في أداء المنظمة الشغيلة الى خلخلة رصيد المصداقية التي تمتعت به الى حد الآن لدى شرائح واسعة من الشعب التونسي وانعكس ذلك في الشعارات التي رفعها المحتجون سواء في بهو النزل الذي شهد اجتماع الهيئة الإدارية والقاضي بإلغاء الاضراب الى حدّ مطالبة القيادة النقابية بتقديم استقالتها بعدما عجزت عن تكريس مطالب وتطلعات الآلاف المؤلفة من التونسيين الذين هبّوا لنصرة الاتحاد في أزمته مع الحكومة.
لقد رفع الاتحاد العام التونسي للشغل من سقف مطالبه مستعملا أحد أهم أسلحته وهو الاضراب العام في معركة اعتقد بعض الملاحظين أنها ليست بتلك الأهمية ليكون السقوط سريعا ويعصف بعديد المكاسب التي حققها الاتحاد العام التونسي للشغل على مدى عقود من النضالات وموقعه كخيمة تجمع كل التونسيين وكقلعة يحتمي بها الرافضون والمعارضون والمقموعون والمضطهدون والمبدعون والمفكرون والمعدومون والفقراء مهما كانت عقيدتهم وقناعاتهم.
لقد فشلت المركزية النقابية في تحديد خصومها في المعركة الاخيرة وإن كانت ركزّت في جزء منها على لجان حماية الثورة الأمر الذي استغلّته الجهة المقابلة في تشتيت تركيز المنظمة الشغيلة بأن فتحت ثلاث جبهات لإفراغ مطالب الاتحاد من واقعيتها ومن جدّيتها وقد وجدت المنظمة النقابية أمامها منافسا أثبت أن له قدرة عجيبة على المناورة وحذق لعبة توزيع الأدوار جيدا ولم يكن اتحاد الشغل بتلك البديهة التي تحقق له بدقة تحديد «عدوّه» بالضبط إن كانت الحكومة أم حركة النهضة أم لجان حماية الثورة باعتبار تقديره أنها المسؤولة عن العنف الذي مُورس عليه يوم الثلاثاء 4 ديسمبر 2012 في ساحة محمد علي على هامش إحيائه لذكرى اغتيال الزعيم فرحات حشاد.
هكذا، قد يكون اتحاد الشغل خسر البعض من مصداقيته وتسرّع في اتخاذ قرارات خطيرة قد تضعف أسلحته المتمثلة أساسا في الاضراب لكنه في المقابل قد يكون ربح تجربة خصوصا لدى القيادة الجديدة المنبثقة عن مؤتمر طبرقة في ديسمبر الفارط.
هذه القيادة الفتية كانت أمام مواجهة من الحجم الثقيل ولم تكن ربما تمتلك الأدوات اللازمة لإدارة مثل هذه المواجهات وبالتالي فإن قضية الاضراب العام قد تكون بمثابة الدرجة للقيادة الجديدة على خوض المعارك القادمة بمزيد من الحنكة والتعقل.
كما أن اتحاد الشغل خرج منتصرا بالجماهير الواسعة الذين هبوا لنصرته مما أعاد تفعيل دور المجتمع المدني في تونس وثبّته في واجهة الأحداث للدفاع عن الثوابت الفاعلة للمجتمع التونسي.
والواضح أن خصوم الاتحاد خرجوا كذلك مستفيدين من هذه الأزمة بمجرّد أن اتهموا المنظّمة الشغيلة بأنها تحوّلت الى أداة لخدمة أطراف سياسية لعل أهم أطيافها اليسار، وخرجت كذلك الحكومة منتصرة بإظهارها أنها قادرة على إدارة مثل هذه الأزمات وسحب البساط من تحت أقدام معارضيها حتى وإن كان هذا المنافس منظمة في حجم الاتحاد العام التونسي للشغل وإن كان الاتحاد قد نجح في أجبار رئيس الحكومة على تحديد رزنامة واضحة لانهاء الدستور واجراء الانتخابات.
كما خرج رئيس حركة نداء تونس السيد الباجي قايد السبسي منتصرا باثباته أنه رجل دولة لا ينساق بسرعة وراء الحماس الآنيّ والمطلبيّة المستعجلة بأن بقي خارج دائرة الصراع منتظرا ما يمكن أن تؤول إليه الأمور والتصرّف وفق نتائجها على عكس عديد الأشخاص السياسيين الذين ربّما قد يدفعون فاتورة تعجلهم في الانتخابات القادمة.