مرّ في الشّهر الماضي عام على رحيلك فهفت نفسي إلى قراءة بعض شعرك، علّني أستنشق منه عطرك، وأستحضر به روحك، أوعساه يذكّرني بلقاءاتنا وسهرات جمعتنا بإخوان صفاء سبقك بعضهم وما زال يؤنسني في هذه الدّنيا بعض آخر. امتدّت يدي إلى مجموعتك الشّعريّة «حامل المصابيح» التي مضى على صدورها ثلاثون عاما وأقرأ أبياتا من قصيدة: متى يرحل الحزن؟ متى يرحل الحزن عن أرضنا الطّاهره متى يرفع السّتر عن كلّ بيت قديم لتظهر أنواره الباهره
هي آهات مكروب وزفرات محزون تصيبه كوارث أيّامنا هذه بالسّهم تلو الآخر. أقول لك اطمئنّ يا « مالك الحزين» – هكذا لقّبك صديقك صالح الجابري- فالحزن ما زال مقيما بأرضنا ، وكلّما ظننّاه رحل عاد، وقد لا يذهب قبل ذهابنا. أقرأ في صفحة العنوان إهداء خصصتني به وكتبته على أوّل نسخة استلمتها منّي أنا من أشرف على طباعة كتابك الثاني هذا، بعد أن اعتذرت الدّار التّونسية للنّشر عن طباعته ، مستكثرة عليك إصدار كتاب ثان بعد كتابك الأول عام 1970 «كلمات للغرباء». كتبت بخطّك الرّقيق المرتعش: «أخي عبد الواحد، هذه نفحة من نفحات صداقتنا وثمرة من ثمرات مجهودك ، أقدّمها لك عربون وفاء ومودّة.» وتشاء الأقدار أن أشرف على طباعة آخر كتبك «أسماء الله الحسنى» وقد صنعته تنضيدا شعريّا لأسمائه تعالى في مقامك ما بين مكّة والمدينة، تقرّبا إلى الذّات العليّة وطلبا لرحمتها وغفرانها. وأودّ هنا إيراد فقرة من مقدّمة هذا الكتاب لأنّها تنضح بما وصلت إليه نفسك من سموّ أخلاقيّ مترفّع عن الدّنيا، وإخلاص إيمانيّ هو أقرب إلى التصوّف منه إلى التّعبّد: «إنّ التّفاني في العمل والإخلاص في النّيّة هما اللّذان أوصلاني إلى المحجّة، والتّعلّق بالأسنى، والبعد عن الأدنى، ولا أراني بعدها – وقد قادني الرّحمان إلى ذلك – أحتاج لغير اللّه، أو تدفعني الدّنيا للوقوف بباب غير بابه، أو أخاف من شيء واقع أو وقع».
2
إنّ محيي الدّين وإن تغنّى في مجموعاته الثلاث الأولى بالحزن فهو لم يستسلم له يوما، وحتّى عندما يشعرنا أنّه نزيل سجن فإنّ سجنه بنوافذ واسعة وأبواب منفتحة، مكّنته من استبطان الكلمات وإكسائها بما يشاء من أضواء و ظلال. سأسكن داخلها سأموت كما مات يوما رفاق الطّريق ولكنّني قبل موتي سأشرب منها رحيق الرّحيق. أحسّ أيضا بالغربة وهذا إحساس عاديّ عند المثقّفين ، يشعرهم بفقدان الأشياء لمعانيها ويدفعهم في الآن نفسه إلى البحث عنها مثل ديوجين. أغلق الحارس الباب والسّجن جهم وفي داخل السّجن ليل طويل أبيد أين مصباح ديوجين أحمله في ظلام
ليس لداخله من مزيد. وفي مجموعته الرّابعة «السّجن داخل الكلمات» بدأ الشاعر يعثر على متنفّس رحب يشغله من حين إلى آخر عن نفسه وما فيها من حزن ووحشة، وبدأت مضامينه تتحرّش بالتّصوّف وعوالم الإشراق ، وتقتبس من التّراث ما يزخر به من الأسماء والأحداث لتزداد رسوخا وتمكّنا في كتبه الموالية... عطشان للحبّ الذي أسلمني للتّيه والضّياع تركتني أطعم في بحرانه من لبن السّباع تركتني ألقى الذي لم ألقه في شدّة الصّراع وكأنّي به حين وصل إلى « مدن معبد» قد بلغ المكان الذي طالما حلم بالسّفر إليه ، بلغه أخيرا بعد أن فتّش عنه وسأل العابرين... الغريب أنّ اسم هذه المجموعة الرّابعة لشاعرنا كان في الأوّل «كتاب الأسفار» ثمّ «أعوام يوسف السّبعة» ثمّ «ألواح يعقوب» إلى أن استقرّ الرّأي في النّهاية على «مدن معبد» ، وكنت أرشّح وأنا أناقشه العنوان الأوّل لوجود موضوع السّفر في كلّ القصائد. عن مدن لم ير الفجر أنصع من جدران مساجدها لم ير النّاس أجمل من ضوء أشجارها لم يشاهد غريب كأبنائها رحمة بالغريب لو تراني بها لعرفت مكاني وأنزلتني في المحلّ الخصيب. لقد تمتّع محيي الدّين بلحظات عمره دون تيه فيها أو استغراق في متعتها ، فالزّمان عنده مفرغ: «اليوم غد...وغد قد فات...لا قبل هناك ولا بعد» وأفضل ما يصنعه المرء هو أن يمدّد احلامه حتّى النّهاية رغم كلّ المعيقات.