كثيرة هي الأمم والشعوب التي سبقتنا الى منطق العنف السياسي... وهي أمم وشعوب غرقت بالنتيجة في بحار من الصراعات والخلافات ودفعت ضريبة كبرى لهذا الحريق الذي يعد الداخل إليه مفقودا والخارج منه مولودا. ويبدو أن الدروس والعبر التي يطفح بها التاريخ الحديث لم تقنع البعض من التونسيين الذين باتت تستهويهم لغة العنف... وباتوا لا يترددون في استعمال حجّة القوة في اعتراف واضح وصريح منهم بافتقارهم الى قوة الحجة... ذلك أن هؤلاء باتوا لا يترددون في الالتجاء الى العنف كوسيلة للتعبير عن مواقفهم وعن رؤاهم السياسية... وهي مواقف ورؤى تحتمل الخطأ والصواب... لكن يبقى التعبير عنها بأساليب غير متحضرة وعنيفة أمرا مرفوضا جملة وتفصيلا.
وقد تكررت سيناريوهات ومشاهد استعمال العنف للتعبير عن الرأي والموقف إزاء أطراف وهياكل وشخصيات حزبية ومهنية ونقابية مختلفة... وكل مرّة تتصاعد الاصوات منددة ومحذرة وداعية الى تغليب لغة العقل والى مدّ جسور الحوار وتفعيل القانون والمؤسسات لردع المتجاوزين حتى لا تنفلت الأمور ولا تنزلق الى مربع العنف والعنف المضاد... وهو آفةمدمّرة لا رابح فيها والكل فيها خاسر بدءا بالشعب ووصولا الى الانتقال الديمقراطي برمته مرورا بالاحزاب والجمعيات وكل النسيج الذي يعمل في الميدان على التأطير والتوجيه.
ومع هذا، فإن حوادث العنف ما فتئت تتكرر... ولا يتردد الواقفون خلفها في التلويح بحجة «حماية الثورة» أو قطع الطريق على من يصفونهم ب «المنتسبين» الى التجمع المنحل. وهي حجج لا تستقيم ولا تخوّل لأحد أن ينبري مدافعا عن الثورة أو منتصرا للقانون خارج أطر القانون والمؤسسات لأن هذا التمشي يفتح الباب على مصراعيه أمام العنف والعنف المضاد... إذ لا شيء سيمنع في نهاية المطاف من قيام روابط أو هياكل أخرى تدعي الدفاع عن الثورة وتنخرط بدورها في دوامة العنف...
وحتى نغلق هذه الطريق نهائيا فلابد من تفعيل دور القانون ومؤسسات الدولة في حماية الثورة وأهدافها وفي طليعتها انجاز الانتقال الديمقراطي أولا... وفي ردع كل المتهورين ثانيا حتى يتجه الجميع الى انجاز ما ينفع البلاد والعباد وما يسهم في انجاح الانتقال الديمقراطي والتأسيس لتجربة ديمقراطية رائدة تقوم على تنافس الرؤى والافكار والبرامج وتفضي الى تداول سلمي على السلطة وترسي دعائم توافق وطني يؤمّن تعايش كل المواقف والألوان.