كشفت الاشهر الثلاثة التي تلت الثورة ممارسات وسلوكات فردية وجماعية بدأت تتفشى وتتوسع مهدّدة أبرز أهداف الثورة ومقاصدها. ولئن يرى بعض المختصين ودارسي تاريخ الثورات أن مثل هذه التصرّفات تتكرّر في كل البلدان وتخفي الجوع الى الديمقراطية والتعطّش الى الحرية والانعتاق، والتمرّد على الهياكل والهيئات القائمة، فإن هذه «الثقافة الثورية» الوليدة فاقت كل حدود الاحتمال وتجاوزت كل اشكاليات التبرير لتهدّد امكانيات التعايش السلمي وقبول الاختلاف ولتجعل القوّة والعنف الآلية الاولى، وربّما الوحيدة، للحصول على ما يعتقد انها حقوق مكتسبة أو مغتصبة. فهل يمكن ان نقبل اليوم وفي شعب متعلّم ومتحضّر، بعودة نصرة الجهوية والعروشية المقيتة واللجوء الى العنف الشديد واستعمال الاسلحة المختلفة لمعالجة مشاكل وخلافات بسيطة؟ وهل من المعقول ان نقطع طريقا أو نوقف التزوّد بالماء على آلاف الاشخاص والمؤسسات أو نمنع المرور على السكة الحديدية فنوقف التزويد والتزوّد ونقل المسافرين والمنتوجات فقط لابلاغ أصواتنا الى المسؤولين والتعبير عن احتجاجنا على قرار او اجراء مهما كانت وجاهته؟ هل نعتدي على مكاسبنا ومؤسساتنا بالنهب والحرق والتكسير للتعبير عن رفضنا لمسؤولين أو لسياسة لم تنل رضاءنا؟ وهل يحق لنا أن نعتدي على من يخالفنا الرأي والموقف ونتعامل معه بحجة القوّة ونرمي قوّة الحجة فيتحوّل جدالنا واختلافنا الى صراع؟ إن التوق الى الحريّة والديمقراطية يبقى مجرّد حلم ما دام الواحد منا ميّالا الى تغليب المصلحة الضيّقة ورافضا للاختلاف وللتعدّد ومعتقدا ان موقفه هو الأصوب ولا يقبل الاضافة والتعديل. إن أصوات العقل والحكمة مطلوبة اليوم قبل ثلاثة أشهر من انتخابات المجلس التأسيسي، أول خطوة أمام تحقيق الانتقال الديمقراطي، والتي ستمثل فرصة هامة لترسيخ الديمقراطية وإعادة الاعتبار الى صندوق الاقتراع كآلية وحيدة للتغيير والتعبير عن الرأي والموقف.