أشرنا، ونحن نستعرض كتاب الرحلة إلى تونس والجزائر، إلى افتتان الكاتب الفرنسي الكبير أندري جيد بمدينة تونس العتيقة. ووصفنا توغّله في أزقتها الضيّقة ودروبها المتعرّجة كما وصفنا افتتانه بمفردات حضارتها.. وعرّجنا على دخوله مقهى الحلفاوين..وقلنا إنّه أدرى الناس بكراهيّة التونسيين للمحتلّ الأجنبي لكنّه أقدم مع ذلك على زيارة هذا المكان الجميل. ومقهى الحلفاوين، كما وصفه أندري جيد، مقهى شاسع، يرتاده أهل تونس، يحتسون قهوته وشايه اللذيذين ويتجاذبون داخله أطراف الحديث ولا شكّ في أنّ المستعمر الذي جاء من وراء البحر ينتهك حرمة ترابهم كان مدار جدلهم الطويل.. ويعرف أندري جيد جيدا أنّ أهل المقهى قد استقبلوه على مضض لكنه مع ذلك اتخذ له مقعدا داخل المقهى وظل يراقب من بعيد ساحة الحي ّ.
يقول أندري جيد إنّه أراد أن يرى، قبل أن يخلد إلى النوم، الفرقة الموسيقية العسكرية الفرنسيّة وهي تعود الى ثكنتها. اتجه نحو الطريق التي تسلكها.وقف قريبا منها يتأمل وجوه الجنود المبتهجين.. نظر حوله فلم يجد تونسيا واحدا يقف محتفلا بالفرقة.. لقد ظلّ الجميع داخل مقاهيهم يستمتعون بموسيقاهم.. ويهمس اندري جيد: لابدّ أنّ أهل تونس يتذكرون اليوم الذي دخلت فيه هذه الفرقة منتشية بالنصر غداة الاحتلال.ثمّ يردف قائلا : أنا حزين لأنّ أهل هذا البلد يقابلوننا بكلّ هذا الجفاء، بكلّ هذه الكراهية.
لكنّ أندري جيد لم يفتتن بالمدينة فحسب وإنّما افتتن أيضا بالصحراء وفي هذا الكتاب نجد وصفا جميلا للجنوب وللجزر الطافية على سطحه أعني الواحات. والزمن، في هذا المكان المقفر، كما يقول الكاتب، يرتدّ باستمرار على نفسه. الساعة تعيد الساعة، واليوم.يعيد اليوم. الوقت هنا دائري آخره يلتفّ على بدايته.
انبهر جيد بطرق الريّ المعقّدة التي ابتكرها أهل الجنوب حيث يفتحون أو يغلقون في الطين سدودا صغيرة. كلّ سدّ يدفع الماء الى شجرة بعينها. يسقيها ويروي عطشها ثم يرتفع من الحفر مثقلا بالتراب، نحو كل الجهات، ليغمر سيقان السنابل بالمياه الحمراء.
يقرّر جيد الصعود فوق أحد التلال فيخلع حذاءه ويحاول الصعود. لكنّه لاحظ أنّ التلّ متحرّك.. الريح تدفعه باستمرار الى الوراء.يتشبث بالرمل.لكن التلّ يظلّ يتراجع.فليس غريبا بعد هذا ان يتطلّب تسلّقه وقتا طويلا وقد أعماه الرمل الذي تذروه الرياح.
يجلس منهكا فيما ترتفع الريح في أعلى التلّ، لتغيّر شكل الصحراء وجغرافيتها.يقول جيد إنه كان يسمع حوله، السقوط الخافت للرّمل ناعما مثل سقوط الماء.
ينتقل بعد ذلك الى إحدى الواحات.يندهش الكاتب أمام العدد الهائل من المزارع التي يأخذ بعضها برقاب بعض: «حيطان من التراب ..! ونخيل يتأرجح فوقي. السعف يغطي طريقي. من بستان إلى آخر، عبر طريقي، ! طيور الورشان ترف حولي عنقود عنب ينبجس من إحدى الكوى، ينمو ويرتفع. يلتفّ حول النخلة، يعانقها ويضغط عليها، يبلغ شجرة المشمش ويتلوّى حولها. من هذا الطفل الرشيق الذي يتسلق الشجرة، ثمّ يقدّم،لي عنقودا ثقيلا لأطفئ عطشي؟».
يدخل جيد أحد البساتين، يتمدّد فوق حصير، ويشرب شيئا من نسغ النخيل. لم يستطع التخلّي عن هذا المكان فقد بقي ممدّدا في الظلّ تاركا للزمن أن ينغلق ، على نفسه، مثل موجة، موجة تلقي فيها حجرا.
في هذا المكان المعزول عن العالم تستمرّ الحياة. يقول جيد: الشيخ يموت بلا ضجيج والطفل يكبر بلا صخب فيما تتشبّث القرية بحياتها. كل واحد من سكّانها يأخذ قسطه من الراحة، و يبتسم مبتهجا. لا شيء هنا غير العمل البسيط في الحقول.
«هذا هو العصر الذهبي!» هكذا هتف جيد وهو ينظر إلى الواحات من حوله.
شيئا فشيئا يهبط الليل بأغانيه وحكاياته. ينظر حوله فيرى شيخا ينام في الزاوية. وآخر يغني بصوت خفيض جدا. كما يرى طفلا يقف قرب الموقد يحرك الرماد بحثا عن بعض الجمر لتدفئة القهوة المرة.
يتمتم الكاتب وهو يترشّف القهوة : الزمن الذي ينساب هنا ليس له ساعات.