لا أدري بأيّ عين ينظر البعض إلى المشروع النهائيّ للدستور كي يجيز لنفسه الشكر والمديح! ولعلّ في هذا البعض من غرّته عبارةٌ إيجابيّة هنا وأخرى هناك فاستساغ التوهّم بأنّه لم يَرُدَّ القضاء لكنّه سعى على الأقلّ إلى اللطف فيه! غافلاً أو متغافلاً عن عبارات أخرى سابقة ولاحقة تنسف تلك الإيجابيّات وتجعل النصَّ ككُلّ نصًّا زَلُوقًا يقول الشيء ويسمح بنقيضه! السمة الغالبة على المشروع النهائيّ للدستور حسب الصيغة التي وصلتنا قبل أن يُعرَضَ على النقاش العامّ بالمجلس التأسيسيّ، أنّه مكتوب بعقليّة فصاميّة غير ديمقراطيّة جعلته يتلعثم ويغمغم ويرطن كلّما تعلّق الأمر بحقوق الإنسان وبمدنيّة الدولة وبالحريّات العامّة والفرديّة فاتحًا ثغرات لتديين المجتمع مفسحًا المجال حتى إلى إنشاء الميليشيات تحت غطاء قانونيّ!
نريد دستورًا يجمّع ولا يُفرّق، يحرّر ولا يقيّد، يقوم على أرضيّة وفاقيّةً مشتركة من القيم والمبادئ والنصوص التي تعبّر عن تلك القيم والمبادئ، ويؤمّن قضاءً مستقلاًّ وإعلامًا حرًّا وأمنًا جمهوريًّا وانتخابات نزيهة وإدارة لا ينخرها التحزّب والولاء.
نريد دستورًا يمنح التونسيّ والتونسيّة فرصة العيش في دولة لا تميّز بين رجل وامرأة ولا تفضّل جهة على أخرى ولا تمارس العنف خارج ضوابط القانون ولا يحتكرها حزب وليس لحزبٍ فيها ميليشيات ولا يُحرم المتّهم فيها من براءته حتى تثبت إدانته ولا يتعرّض السجين فيها إلى التعذيب ولا ينفذ السارق فيها بسرقته ولا ينجو المجرم فيها من العقاب.
نريد دستورًا يضمن للتونسيّين حياةً جديرة بالحياة، حيث لكلّ أن يختار لنفسه ما يريد ضمن شروط العيش المشترك المتواضَع عليها في ديمقراطيّات العالم، لا أحد يملي على أحد لباسًا ولا أحد يحرّم على أحد مأكلاً أو مشربًا ولا أحد يُنكر على أحد فكرًا او انتماءً حزبيًّا ولا أحد يجرّم الآخر على إبداع أو تعبير ولا أحد يفرض على أحد رأيًا أو نمط عيش.
نريد دستورًا عاديًّا لبلاد عاديّة، حيث للتجاوزات حدود معقولة، وحيث يتيح الفصل بين السلطات وحياد الإدارة واستقلاليّة القضاء وحريّة الإعلام، مهما كانت نسبيّتها ومهما كانت سلبيّات واقعها بالمقارنة مع النظريّة، أقلّ قدر من التجاوزات التي لا تغيب عن نظام، فنحن لا نطمع في فراديس طوباويّة.
إلاّ أنّ السمة الغالبة على مشروع الدستور حسب الصيغة التي وصلتنا حتى الآن هي الارتباك أسلوبًا ومضمونًا، وكأنّ نصفه للدكتور جيكل ونصفه للمستر هايد! ولو تقدّم أحدُ الطلاّب بمثل هذا النصّ إلى امتحان لفشل بامتياز!
ليس في هذا الدستور أي تجاوب واضح وصريح مع مطالب الثورة بما تعنيه من تغيير للمنظومة الاقتصاديّة والاجتماعيّة وتطوير لظروف العمل ووضع حد لسياسة التفقير والتهميش، وبما تتطلّبه من قضاء نزيه وإعلام مستقلّ وثقافة حرّة، في ظلّ دولة للجميع يحكمها نظام ديمقراطيّ انتخاباته شفّافة ومواطنوه أحرار متساوون أمام القانون. ليس في هذا الدستور أيّ دسترة واضحة لا لُبْسَ فيها لأهداف الثورة: العمل والحريّة والكرامة. وهي أهداف لا لُبْسَ في تشبُّعها بمبادئ حقوق الإنسان ولا لُبْسَ في طموحها الديمقراطيّ ولا لُبْسَ في مدنيّتها بعيدًا عن كلّ أجندةٍ حزبيّة تديينيّة.
لكأنّ اللُّبْسَ والالتباس هما غاية هذا الدستور وغايةُ الأكثريّة الانتخابيّة التي تريد أن تفرضه على الشعب. وإنّ على المشاركين في كتابة هذا الدستور أن ينتبهوا جيّدًا إلى أنّهم يعرضون على شعبهم نصًّا شبيهًا بحقل الألغام القابلة للانفجار في كلّ لحظة. ولعلّ زرع هذه الألغام في كلّ نصّ من نصوصه هو الذي تطلّب كلّ هذه المناورات واستغرق كلّ هذا الوقت.
هذا الدستور ساطور يقسم الدولة إلى دولتين ويقسم الشعب إلى شعبين ويقسم المجتمع إلى مجتمعين ويقسم البلاد إلى بلادين ويقسم أبناء البلاد إلى معسكرين.
وإنّ على الأكثريّة الانتخابيّة التي تريد أن تفرض على الشعب دستورًا على قياسها أن تفهم أنّ دستورًا بهذه الصفات لن يعمّر أكثر منها وأنّها لن تلبث أن تتحمّل مسؤوليّتها عنه أمام شعبها وأمام التاريخ.