مرّةً أخرى يُفاجئ الشعب التونسيّ نُخبتَه السياسيّة.. أو بعضًا منها: في مطلع ثورتِه حين صدَّرَ شعاراته ببيتٍ شعريّ لأبي القاسم الشابّي.. وهذا الأسبوع حين خرج بالآلاف إلى الشارع دفاعًا عن المُساواة بين المرأة والرجل التي أراد البعضُ قَتْلَها كفكرة من خلال المشْيِ في جنازتها كعبارة! لكأنّ هذا الشعب فهم ما لم تفهمه نُخبتُه التأسيسيّة.. أو بعضٌ منها: أنّ اللغة ليست بريئة.. وأنّ الشيطان يقيمُ في التفاصيل.. وأنّ من الواجب أحيانًا، على رأي سيوران، الدفاع عن الفاصلة، فما بالك بالكلمة أو العبارة!
لم يغب المكر اللغويّ عن القُدامى، وعلى رأسهم أبو جعفر المنصور الذي خطبَ يوماً بالشام فقال: أيّها الناس ينبغي لكم أن تحمدوا الله تعالى على ما وهبكم فإنّي منذ وليتكم صرف الله عنكم الطاعون الذي كان يجيئكم. فقال أعرابيّ: إنّ الله أكرم من أن يجمعك أنت والطاعون علينا!
وممّا رُوي في هذا السياق أنّ المنصور أراد القبض على عبد الله بن عليّ فطلب من إخوته أن يكتبوا له كتابَ الأمان بأنفسهم ووعدهم بأن يكون الكتابُ مُلزِمًا له ما أن تقع عينُهُ عليه.. فاصطحبوا أخاهم إلى القصر ومعهم الكتاب لكنّ المنصور أشاح عنه ولم تقع عينه عليه وهكذا استطاع حبسه.
كما رُوي أنّ ابن هرمة دخل على المنصور وامتدحه فقال له المنصور سل حاجتك. قال ابنُ هرمة: تكتب إلى عاملك بالمدينة إذا وجدني سكران لا يحدّني. فقال له المنصور: هذا حدٌّ لا سبيل إلى تركه. فقال: ما لي حاجة غيرها. ففكّر المنصور برهةً ثمّ قال لكاتبه: اكتب إلى عاملنا بالمدينة من أتاك بابن هرمة وهو سكران فاجلده مائةً واجلد ابن هرمة ثمانين..
ومن أخبار الإسكندر في هذا السياق أنّ عبْديْنِ غدرا بأحد الملوك في زمنِهِ وقتلاه.. فقال الإسكندر إنّ من قتل هذا الملِكَ عظيمُ الفِعال ولو ظهرَ لنا جازيناه بما يستحقُّ ورفعناه على الناس.. فلمّا بلغهما ذلك ظهرا فقال الإسكندر أنا أُجازيكما بما تستحقّان: فما يستحقُّ من قَتَلَ غدْرًا إلاّ القتل.. وأمّا رَفْعُكُما على الناس فإنّي سأصلبكما على أطول خشب.
ظلّ سيوران لمدّةٍ طويلة لا ينعم بالنوم ولا يحبّ الجلوس ويُفضّل التفكير راكبًا درّاجة ويحلمُ بفاصلةٍ تُساوي النصّ كلّه كنايةً عن حقيقة تستحقّ الحياة كلّها.. وها هو شعبُنا يفهم الرسالة التي لم تفهمها نخبَتُه الجالسة.. أو بعضٌ منها!
فجأةً أرادت الأكثريّة النيابيّة تحويل الدستور إلى دُستور نوّابٍ أو «دستور ممثّلين» على غرار ما يحدث في المسرح والسينما حين يستبدّ المُخرج أو الممثّل بالتأليف ويتمّ استبعاد الكاتب في ما سُمّي بنظريّة «موت المؤلّف»!
رفض الشعبُ أن يتمّ الانقلاب على النصّ الذي كلّف ممثّليه بترجمته إلى نصوص دستوريّة داخل المجلس.. نصّ يتضمّن عبارات أساسيّة مثل استقلاليّة القضاء والإعلام وحريّة التفكير والتعبير ومساواة المرأة للرجل.
لذلك خرج إلى الشارع دفاعًا عن مجلّةِ أحوالٍ شخصيّة يريد تطويرها لا النكوص عنها.. ودفاعًا عن امرأة أصلٍ لا فرعٍ ومساويةٍ لا مُكمّلة.. إلاّ أنّه خرج أيضًا دفاعًا عن نفسه باعتباره مؤلّفًا يريد ممثّلوه أو جانبٌ منهم.. قتْلَه!
انتصر الشعب لنفسه من حيث التيمات.. وانتصر لكُتّابهِ أيضًا من حيث اللغة والأسلوب.. إذ ليس من شكّ في أنّ خروجه إلى الشارع كان نقْدًا للغة الدستور المتعسّرة ولادته، والتي غلبَ عليها الضعفُ من خلال ما تسرّب حتى الآن.
لكأنّ شعبنا يحذّر الإيديولوجيّين من مغبّة الوقوع في غواية قتْلِ المؤلّف.. ويقول لهم إنّ الكُتّاب أنْبَهُ إلى ما قد يغفل عنه أدْهى رجال القانون من ألغام لغويّة.. بعد أن أثبت التاريخ أنّ الدساتير ليست في مأمن من ذهنيّة المُكلّفين بتطبيقها.
ولو اقتصر الأمر على اللغة السياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة لهان.. لكنّه يتعلّق باللغة في ذاتها أيضًا.. فليس أخطر أحيانًا من حضور حرف العطف حيث يجب أن يغيب وغيابه حيث يجب أن يحضر.. بما يُتيح المجال إلى التأويل ونقيضه..
على النصّ الدستوريّ إذا أراد له أصحابه إجماع المواطنين واختراق الزمن أن يستقيم مبنًى ومعنًى.. استقامة لا نرى برهانًا عليها حتى الآن في أغلب ما تسرّب من فقرات!!
ولن نرى برهانًا عليها ما لم يُتَحْ للشعراء والكُتّاب داخل المجلس وخارجَه أن يُراجِعُوا، هم أيضًا، مسودّات النصوص قبل تبييضها، وأن يُدخِلوا عليها ما يلزم من صَقْلٍ ووحدة أسلوبيّة وتركيز على مطالب شعبهم الحقيقيّة بعيدًا عن المصالح الحزبيّة والإملاءات الإيديولوجيّة.