كنت قد نبّهت سابقا إلى الطموح المبالغ فيه الذي يحدو «رئيس مشيخة جامع الزيتونة» وهو يمضي في سياسته التوسّعيّة على حساب الملك العمومي والوطنيّ زاعما أنّه من أحباس تعود إلى الجامع الأعظم الذي هو وريثه الأوحد والوحيد. ولئن كان الشيخ حسين العبيديّ قد «فتح» الجامع المعمور صلحا، وآل إليه فيئه وأمور التسيير فيه، فإنّ التهاون الرسميّ قد زيّن له المرور إلى الفتح عنوةً. وكان الإمام الحاكم بأمره قد عبّر بين يديْ شهود حفله التنكّري يوم 12 ماي 2012 عن نيّته في بسط نفوذه على الجامع الأعظم وعلى افتتاح فروع له بالجهات واسترجاع أحباس الجامع بما فيها الأراضي والعقارات والهبات وسائر الأوقاف التي تمّت مصادرتها منذ خمسينات القرن الماضي مع حلّ الأحباس وتوحيد التعليم العموميّ. وأعلن بلا مواربة أنّ معهد ابن شرف وكلّية العلوم الإنسانية والاجتماعيّة 9 أفريل من ضمن هذه التركة التي يطالب بها الشيخ بحجّة أنّهما أنشئا محلّ الحيّ الزيتونيّ أوائل الخمسينات من القرن الماضي.
كان الاتّفاق المذكور قد وقّع يوم 12 ماي الماضي في تخميرة ثأريّة بين من لا يملك (الحكومة المؤقّتة من خلال وزراء الشؤون الدينيّة والتربية والتعليم العالي..) وبين من لا يرثُ، وهو الشيخ حسين العبيدي الذي لم يسمع الناس أنّه الوريث الوحيد للجامع المعمور إلاّ بعد «الثورة المباركة» !
وتنصّ الوثيقة على أن جامع الزيتونة مؤسسة إسلامية علمية تربوية مستقلة غير تابعة للدولة وتتمتع بالشخصية القانونية... وعلى أنّ حسين العبيدي هو شيخ الجامع الأعظم وفروعه، وأنّ التصرف في الجامع وتنظيمه يعود إليه حصريّا !!
وفي حين كان بعض الممضين على هذا الاتّفاق ينكر أمام وسائل الإعلام علمه بنوايا الإمام التوسّعية، كان الشيخ بصدد الاشتغال على التنفيذ فورا وبلا إبطاء مبتدئا بتغيير الأقفال. والحقّ أنّ التجربة بيّنت أنّه بارع في هذه المهمّة ! بعد تغيير الأقفال استبدّ الشيخ بالجامع الأعظم وسط مؤيّديه، وتحدّى الدولة بطرد الإمام الذي عيّنته وزارة الشؤون الدينيّة.. ثمّ، كمن يتصرّف في ملكه الشخصيّ قام الشيخ مخفورا بمؤيّديه بطرد أحد أساتذة الآثار والعمارة الإسلاميّة وإهانته صحبة طلاّبه حين تجرّأ على زيارة صحن الجامع المعمور. وحين قصد بعض مساعدي القضاء جامع الزيتونة يوم 3 أوت 2012 لمعاينة الأقفال اعتدى عليه الشيخ بضربة رأسيّة دلّت على مهارة في هذا الباب لا تمارى. أوقف الشيخ بعدها لساعات ثمّ أطلق سراحه وكأنّ شيئا لم يكن.
لا بدّ من التذكير بهذه الصفحات «الناصعة» حتّى نفهم السياق الذي تتنزّل فيه الغزوة التي شنّها الشيخ الحاكم بأمره يوم الأربعاء الماضي صحبة العشرات من أنصاره على مقرّ جمعيّة «الخلدونيّة» وطرد إدارتها والعاملين فيها والختم على أقفالها أيضا.
يزعم الشيخ أنّ ذلك تمّ منه خوفا من التفريط في آلاف المراجع الراجعة إلى الزيتونة والتي «استولى» عليها القائمون على «الخلدونيّة» منذ عهد بعيد. ويزعم، أيضا، أنّه استشار الوزارات المعنيّة والجهات المحلّية وأنّه وجّه عدل تنفيذ إلى إدارة «الخلدونيّة» قبل أنْ يتكفّل بالأمر ويدخل في التنفيذ. أمّا «الكتيبة» التي كانت تخفره في الاقتحام فلم تكن حسب روايته إلاّ جماعة من المارّة في سوق العطّارين علموا صدفة بموضوع السرقة لممتلكات الزيتونة فتعاطفوا معها وشاركوا في فتحها قربى إلى اللّه وزلفى ! لا تخلو غزوة الشيخ للخلدونية من دلالات، فهذه المدرسة المملوكة للدولة التونسيّة والتي تحوّلت إلى مكتبة ومركّب للجمعيات تحت تصرف بلديّة تونس، وبإشراف المكتبة الوطنية ووزارة الثقافة أنشئت في أواخر القرن التاسع عشر (1896). وكان من رموزها أعلام كبار كسالم بوحاجب، والطاهر بن عاشور، والطاهر الحداد، وأبو القاسم الشابي، والفاضل بن عاشور، وحسن حسني عبد الوهاب وغيرهم من رموز الإصلاح التونسي. من يذكر «الخلدونيّة» اليوم يذكر التجربة التونسيّة في إدماج التعليم الإسلاميّ في منظومة التعليم الحديث، ويذكر الزيارة الشهيرة التي أدّاها إليها الشيخ الإمام محمد عبده سنة 1903، ويذكر المحاضرة التاريخيّة التي ألقاها في إحدى قاعاتها أبو القاسم الشابّي سنة 1928 عن الخيال الشعري عند العرب، دون أن ننسى أنّها المكان الذي احتضن الجلسة التأسيسيّة للاتّحاد العام التّونسي للشغل يوم 20 جانفي 1946..
تستمرّ هذه المهازل والثارات والإغارات على مرأى ومسمع من الحكومة الشرعيّة، فيما يبدو أنّ يد الشيخ طويلة أكثر ممّا كان يُعْتَقد. قريبا سيستبق الشيخ القضاء كعادته، ويجهّز حملة على قصر قرطاج. هدف الحملة سيكون، كما صرّح بذلك، استرداد مجموعة من المصابيح الثمينة استولى عليها المخلوع !
أمّا القضايا المرفوعة ضدّه من وزارة الثقافة ووزارة الشؤون الدينيّة وبلديّة تونس فلا نخال أنّ الشيخ يأبه لها، فهو الحاكم بأمره المحتمي بعرينه في الجامع الأعظم داخل المدينة العتيقة. ولن تعوزه الخطابة ولا المنابر كيّ يجيّش الجيوش لنصرة الحمى والدين، ولن يعوزه الحامي والنصير. وهل كان الشيخ يغزو ويفتح، وينقض ويُبْرِم، لو عزّ عنه الحامي والنصير؟ [email protected]