(1) هذا هو اذن الفضاء الذي ازدحم بك الخضرة التي شغرت من اجمل كائناتها بعد رحيلك جئنا نؤاخي غابة ثاكلة بعدك لننساك لننسي نسيانك فتعشق بنا الافئدة كمن يطلق الريح في جمرة النص.. (زعفرانة البحر من علاج المسافة لقاسم حداد /البحرين عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2002)
(2)
باحت بأسرارها الكلمات.. هي لم تبح بعد، لكأن الشاعر يجهش باللغة فاتحا اجنحته لاحضان الطيور.. نعم هكذا هي القصائد لديه.. انها ضرب من الاحتفاء بغرابة اللحظة وأفعالها.. يدعو عناصره بل يمضي اليها فنسمع لديه موسيقى القبائل، الاسماء، الشمس الذئب، الحجر ومرارات.. ليست مرارات تلك انها رحلة المديح الفادح وللاسئلة بلاغة الصمت وفصاحته الفاخرة: مررنا بهم نفضحهم بذاكرة المستحيل جمعنا لهم القرائن كي يكفوا عن الموت مدحنا لهم الغياب بفصاحة الصمت.. هكذا يعالج قاسم حداد مسافاته على نحو يحاور فيه ذاته ويحاولها حتى غدا طفلا يرى الاشياء بحكمة عالية ورفعة لا تضاهى.. هي من شيم شاعر /كائن أوغل في الحروف باحثا عن كلمات اخرى.. عن مجد لن تصنعه سوى اصوات الروح في براري وصحارى ومياه الموتى.. انه الحلم المتحرك في عالم العبث لذلك كان الشاعر.. وكان قاسم حداد الذي اجهش بالكتابة.. الكتابة الفاخرة ايضا: (... كلما انتحرنا لكي نؤكد للاخرين انهم بالغوا في العبث بنا، اكتشف الاخرون ان ثمة حمقى يتوجب تلقينهم درسا في اللياقة لئلا يبالغوا في الاستهانة بالقناديل وهي ترسم الخرائط...).
(3)
يحمل قاسم حداد رحلته في ذاكرته بحثا عن اسرار المعاني وهذا امتحان رهيب ونعمة في الان ذاته خصوصا حين يتعلق الامر بشاعر يرتكب المغامرة بل /آوت اليه العبارة وصارت ملء روحه. ( رحيل يضع زفير أرواحنا في التجربة يعرينا من حنين جامح رحيل فادح خلعنا له أجمل قمصاننا )
ماذا اقول اذن عن شاعر يرى الاشياء بعين القلب ويدعوها الى سلال لغته فتصبح عوالمه الاليفة.. هو تشكيلة ما يصعب تشكيله بالكلمات بل ما لا يمكن التفطن اليه بسهولة، تلك هي حميميته وقد اتضحت له طريق الشعر التي عمل على نحتها من عقود. مأخوذا بالتفاصيل وهو يمضي مع الناس.. مع الاخرين لذلك هو يحفل خلال معالجاته الجمالية بأشد المشاهد سحرا واكثرها ايغالا في البهاء وبمعنى آخر هو اكتشاف العادي وتفعيله في الحياة وفي الشعر..
«تزن السلال خفتها وهي تتأرجح خلف النساء متقمصات هيئة طفلات يقلدن أمهاتهن السلال في الخفة والنساء هن يتكئن على هواء شاغر لكي يحسن رصف الاكاليل وهي تتهدل طائرة وراء السلال..»
(4)
بلا ضغينة بلا ضغينة ولا احد يغار من السلال ولا احد يضاهي نساء يخرجن في واضحة النهار يختبرن الموازين ومكاييل السوق يفضحن ذرائع الباعة ويطفقن عائدات بالمؤونة..
(5)
في هذا النص (السلال ذات الخفة) يفتحنا قاسم حداد بشاعريته العالية على آفاق اراها النص وانتهى اليها، هي آفاق الجمال المتحرك البارع في قول الالوان الغائبة لكنها متمددة في القصيدة مثلما تتمدد ظلال الشاعر حداد في جسد هذا النص الباذخ وفيما يحتار القارئ بين الجسد والظل تنهمر عناصر وكائنات بخفة فائقة في المعاني التي يخلص اليها عادة الشاعر. والشاعر قاسم حداد علمته القصائد التي خيرها بل علمها ايضا ان اجمل القصائد، النصوص تلك التي تنساب تاركة ظلالها على هيئة من الجمال كل ذلك بعيدا عن الغناء وافتعال الاوهام والترسبات التي كثيرا ما ارهقت اللغة والشعر. انه النص في عطائه العظيم.. انه الشاعر الممتلئ الذي يحبب اليك علاجاته في عالم معطوب وانسان مريض..
(6)
المجد اذن للقصائد الباذخة.. المجد للشعر الخالص.. وهكذا.. تمضي الكائنات ويبقى النص ويبقى الشاعر المجيد رغم الوعي الباكر جدا بالنهايات.. النهايات بدايات ايضا ولكن.. كيف نفهم ذلك.. انه السؤال.. (عندما تكون على مشارف الخمسين وتصاب بالشك في شمس ايامك ترى هل سيتاح لك من العمر ما يكفي لكي تعيد قراءة مسودة كتابك الاخير قبل القبر..؟)