يوم 3 جانفي 2013 وفي حركة رمزيّة مفاجئة قام أحدُ الصحفيّين بإدخال كرة قدم إلى رحاب المجلس التأسيسيّ الموقّر، ممّا أزعج طبعًا حُماةَ النظام الداخليّ ونوّابَ الأكثريّة «الغيورين» على الهيبة والمهابة. الغريب أنّ تشبيه الساحة السياسيّة بملعب الفوتبول لم تتسبّب فيه تلك الكرة «الدخيلة» بل جاء نتيجة المشهد الذي اقترحه الفريق الحكوميّ على جمهوره على امتداد سنتين، بدا خلالها أعضاؤُه، في معظمهم، منشغلين بلعبةٍ لا علاقة لها بقضايا الناس من فقر وتهميش وشهداء وجرحى وعاطلين ولا شأن لها بمواجهة الفساد والاستبداد والعنف وكتابة الدستور.. وكم كان حريًّا بهم أن ينزعجوا من أنفسهم لا ممّن وضع أمامهم مرآةً عاكسة في شكل كرة..
لقد كوّروا كلّ شيء حتى المعجم السياسيّ.. وانتخبهم الشعب لكتابة الدستور والانتقال بالبلاد نحو الجمهوريّة الثانيّة فإذا هو يجد نفسه في التسلّل.. بينما انبروا هم هذا يلعب ضدّ الساعة والآخر يبحث عن الوقت بدل الضائع! ولو أفضى الأمر إلى تحقيق أهداف الثورة لهان لكنّ لاعبي الفريق الحكومي لم ينجحوا حتى الآن إلاّ في التسديد خارج المرمى.. أو على العارضة.. ولم يجد الشعب لنفسه استعارة أفضل من استعارة «الكرة بين الذكورة»! وكما هو الشأن في لعبة الفوتبول اتّضح أنّ الفريق الحكومي فِرَقٌ بلا حصر حتى غُمّ على العباد وانتشر لكلّ فريق جمهور وظهر لكلّ جمهور لجانٌ وطاحونة ودندان وكلٌّ يحرق الداد في عيون الحسّاد ويهتف «فريقي يا دولة»!! وكما هو الشأن في لعبة الفوتبول تكاثر اللاعبون النجوم في فريق الحكومة كلٌّ يقول أنا أو لا أحد وكلٌّ يدّعي في التكوير السياسيّ فلسفة وكلٌّ يدّعي أنّه صانع الألعاب ومارادونا السياسة وميسّي البوليتيك وكريستيانو التكتيك.
وكما هو الشأن في لعبة الفوتبول ظهر للفريق الحكوميّ جيش من انكشاريّة التدريب والتطبيب والتنبير والتبرير والتحليل والتعليل والترقيص والتمقيص والتعليق والتزويق فهذا قبطان وهذا كوتش وهذا رئيس وهذا رئيس الرئيس حتى احتارت الأفهام وتعذّر التمييز بين العَرْف والخَدّام! ولم نلبث أن رأينا السياسيّ القارّ وسياسيّ الاحتياط والسياسيّ «الزلاّط» والسياسيّ الماهر في ترويض الكرة والسياسيّ البارع في ترقيدها والسياسيّ صانع اللعب والسياسيّ الذي لا يبرع إلاّ في تعطيل لعب المنافس!
وكما هو الشأن في لعبة الفوتبول رأينا اللعب الواضح واللعب المتنكّر واللعب الجماعيّ واللعب الفرديّ واللعب من أجل المريول واللعب من أجل الوهرة والشهرة والشهريّة والترفيع من السعر في بورصة الأسهم السياسيّة!!
وكما هو الشأن في لعبة الفوتبول رأينا اللاعب «ابن الجمعيّة» الذي تمترس على البنك حتى تمرّس واللاعب الذي يصحّ فيه القول «عندكش عندي» وآخر من نوع «كعبة لا في الحديقة» أي لا يعرف كوعه من بوعه لكنّه ابن عمّ الكوتش أو ابن خالة الرئيس أو صهر رئيس الرئيس! وكما يحدث في كرة القدم حين «يخونها ذراعها» ويلعن اللاعب أرضيّة الميدان وحالة الطقس وضغط الجمهور، ظهرت لدى الفريق الحكوميّ «شمّاعاته» أيضًا، بدايةً من المعارضة وواضعي العصا في العجلة مرورًا بالفلول والأزلام وصولاً إلى الشعب كلّه المغرّر به المكذوب عليه! الميركاتو نفسُه أصبح سياسيًّا واستفحلت ظاهرة تبادل اللاعبين بين الأحزاب وما تتطلّبه من بيع وشراء ومساومات ومناورات حتى صحّ في السياسة ما صحّ في الفوتبول من تحوّل اللعبة إلى بضاعة والفنّ إلى بزنس والساحة إلى سوق.
فرقان وحيدان ظلاّ يفصلان بين الفوتبول وسياسة حكومتنا الرشيدة: الأوّل أنّ لمباريات كرة القدم توقيتًا محدّدًا لكنّ فريقنا الحكوميّ يريد أن يلعب (ويربح) على طول! والثاني أنّ مباريات الفوتبول تتطلّب حكّامًا محايدين لكنّ فريقنا الحكوميّ يريد أن يفرض على منافسيه طاقم تحكيم من عنده! أي من لاعبيه لا الاحتياطيّين بل الرئيسيّين جدّااا!! قال القدامى إنّ للسلطان سكرًا أشدّ من سكر الخمر..
ولا أدري ماذا يقول سلاطين هذا الزمان غدًا حين تطير السكرة ويحضر الديّانة أو الجمهور أو الأمم المتّحدة أو منكر ونكير أو الفيفا بطمّ طميمها؟ ماذا يكون ردّهم إذا السياسة سئلت بأيّ ذنب كُوّرت؟!