ما عاشته الساحة السياسية على امتداد الأسابيع وخصوصا الأيام الماضية من «تشويق» وتسويف بشأن ما اصطلح عليه بقضية التحوير الوزاري بدا أنّه أقرب إلى تحويل للأنظار عن استحقاقات أخرى أكثر أهمية وأشدّ إلحاحا للنظر فيها وحسمها قبل المضي إلى مناقشة الدستور والاستعداد للانتخابات. أسئلة كثيرة تتراكم حول مشروعية الحديث عن تحوير وزاري في غياب رؤية واضحة لما تبقى من المرحلة الانتقالية وخصوصا في غياب اعتراف صريح من الحكومة بأنّ هناك خللا في أدائها أو في أداء بعض الوزارات وفي غياب إرادة صادقة وجديّة في فتح حوار وطني والاتفاق على روزنامة المواعيد القادمة وإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية...
لقد بدا التحوير الوزاري وكأنه ملهاة، أو ربما هو طُعم للطامعين في السلطة أو اللاهثين وراء المناصب وهم كُثر...بل لعلّ «الترويكا» وحركة «النهضة» تحديدا جعلت من مسألة التحوير الوزاري محرارا لقياس درجة الانسجام داخل الائتلاف الحاكم من جهة ولتبيّن الأطراف الراغبة في عقد تحالفات ولو جزئية ووقتية معها خلال المرحلة القادمة.
ولكن هذا المسعى كشف مرّة أخرى أنّ مكونات «الترويكا» لم تلتق على برنامج واضح ومحدّد ومشترك منذ البداية بل التقت حول مناصب وُزّعت بطريقة فيها الكثير من الحسابات الحزبية بدليل أنّ الائتلاف الذي شهد هزّات عديدة بسبب مواقف أحادية من حركة «النهضة» أو بسبب خلافات بين مؤسستي رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية لم ينزلق إلى حدّ بلوغ نقطة الخطر أو حافة التفكّك لا لأنّه قوي ومتماسك والتحالف فيه قائم على مصلحة وطنية لإدارة شؤون البلاد في هذه المرحلة بل لأنّه قائم على مبدإ المحاصصة الحزبية ومعلوم أنّ الحسابات تكثر حين يغلب المنطق الحزبي...
لم نسمع حزب التكتل يلوّح بالاستقالة من الائتلاف الحاكم حين ارتكبت الحكومة أخطاء تقديرية تهم الشأن الداخلي والخارجي ولم نر المؤتمر «ثائرا» إلّا لدى تسليم البغدادي المحمودي وأزمة تجاوز صلاحيات رئيس الجمهورية... بل والأهمّ من ذلك لم نلمس لدى حركة «النهضة» استعدادا للإقرار بأنّ أداء الحكومة شابه بعض التعثّر والتذبذب ولا حرج في ذلك ولم نلمس لديها رغبة في «التنازل» عن وزارات السيادة وهي تقول ذلك علنا منذ بدء الحديث عن تحوير وزاري...
هذا الواقع يطرح تساؤلات حول مدى نجاعة مثل هذا التحوير فأي جدوى لتحوير وزاري يقتصر على «الوزارات التقنية» ولا يخرج من منطق المحاصصة الحزبية وأي معنى لمثل هذا الإجراء وظروف الحوار الوطني لم تنضج ونواياه لم تصدق حتى بعد الخطوة الأخيرة التي بدأها رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي بجمع مختلف المكونات الحزبية ودعوتها إلى مؤتمر للحوار لا يقصي أحدا وتأييد رئيس حركة «النهضة» راشد الغنوشي لهذه الخطوة.
صحيح أنّ تجربة الحكم الائتلافي في تونس تُعدّ تجربة جديدة وفريدة وأنّ تشكيل «الترويكا» كان خطوة رمزية لإظهار مدى التعايش بين التيارين الإسلامي والعلماني وقدرتهما على قيادة البلد في مرحلة انتقالية صعبة بكل المقاييس لكن المطلوب من هذا الائتلاف أن يكون أكثر قدرة على استيعاب قضايا المرحلة وتحدياتها وأن تكون لديه الجرأة للاعتراف بأنّ هناك أزمة على عدة مستويات والقبول أخيرا بإنجاز تقييم موضوعي لتجربة الحكم والابتعاد عن المنطق الحزبي في التعاطي مع الملفات الكبرى والشروع فورا في تحديد روزنامة واضحة لما تبقى من المرحلة الانتقالية والانفتاح على مختلف الأطراف السياسية لإدارة المرحلة في مناخ أدعى إلى الهدوء وأسلم للمصادقة على الدستور والمرور إلى الانتخابات.