في كل الأحوال فان التحديات المتراكمة أمام الدولة والشعب معا لا يجب أن تقابل بمنطق التيئييس والتحبيط وتدمير النفسيات والمعنويات فكذا حال كل الشعوب التي ارتأت لنفسها أن تكون حرة ومنعتقة، ولن تمر الأزمة حتى تلفظ هذه الأرض الطيّبة من سطحها وبطنها كل الحاقدين والكارهين والمتآمرين الذين اختاروا صناعة الموت على صناعة الحياة. الحديث عن التحوير الوزاري المرتقب في تركيبة الحكومة التونسية أخذ مجالا واسعا من الجدل والمناقشة وطرح عددا كبيرا من الاحتمالات والتساؤلات على نحو: أيّ جدوى من وراء اقرار هذا التحوير الوزاري؟ وعلى أي أساس سيتم ذلك؟ أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرد حبل لبالونات اختبار. المتتبّع لمجريات الأحداث ومنطوق التصريحات يلمس أن تقاطعا واضحا حدث ما بين توقيت المؤتمر التاسع لحركة النهضة، ومقترح التحوير بما منح هذا الأمر اهتماما وانتشارا في الشارع التونسي وفي الأوساط الحزبية وفي اروقة المجلس التأسيسي، ثم جاءت أحداث السفارة الأمريكية لتزيده وهجا وبريقا، ففي البداية أخذ المقترح قالبا سياسيا في اتجاه توسيع الائتلاف الحاكم بما يحقّق المصلحة الوطنية ويضمن وفاقا أوسع حول الحكومة ثم ما لبث الحديث ان تحول الى نقد لاذع لأداء الحكومة ووصفها بالفاشلة والمقصرة، حتى تحول الأمر من اقتراح من الترويكا وبالأساس من طرفها القوي أي حركة النهضة الى مطلب يدعي البعض انه شعبي خصوصا وأنه صدر عن المعارضة التي ذهبت الى اقتراح حكومة كفاءات أو حكومة انقاذ وطني وهو ما سيضخّ العمل الحكومي برؤى واستراتيجيات مغايرة ويعطيها نفسا جديدا لمواجهة تحديات ما تبقى من المرحلة الانتقالية. لم يعد هناك مجال للشك بأن الشارع التونسي اليوم يشهد تململا بسبب غلاء المعيشة وتواصل غياب التنمية وارتفاع نسب البطالة نهيك عن التعامل الهش مع ملف التشغيل مما جعل المواطن العادي لا يلمس أي تغيير حقيقي بل ويفقد الأمل في الانفراج، فالأكيد أن الترويكا لم تنتهج استراتيجية ثورية بموازاة الاستراتيجية الاصلاحية التي يفترض ان تعقب كل ثورة شعبية حيث أن الملفات المستحقة والمستعجلة راوحت مكانها وظل التعامل معها يفرض حينا نوعا من التسويف ذو طابع قانوني وخاضعا للبروتوكولات الإدارية "الركيكة" والقواعد التنظيميّة الزّائفة التي طبعت مرحلة النّظام السّابق، وأحيانا أخرى يفرض نوعا من الدعاية السياسية ذات الطابع الحزبي وهو ما عمّق في اعتقادي الخلاف الاستراتيجي داخل الترويكا نفسها وفتح مجالا واسعا للمعارضة لاستنزاف قوة الائتلاف الحاكم وإظهار الحكومة بمظهر العاجز عن إدارة شؤون البلاد وعن السيطرة على الوضع الامني بطريقة فيها كثير من المبالغة والتهويل وذلك بغرض تأليب الرأي العام الداخلي و الأجنبي ضدّها، وهو ما يفسر قطعا ولادة نوع من التحالفات غير المعهودة بين الأحزاب المتعارضة والآتية من خلفيات غير متجانسة و التي تقدم نفسها على انها البديل والمنقذ. ان تونس اليوم تعيش أخطر لحظات حياتها السياسية منذ الثورة في ظل غياب حوار جدي ومسؤول خصوصا بعد الأزمة التي بلغت مداها بين الحكومة واتحاد الشغل الذي وسّع مجال خلافه مع الترويكا الحاكمة ليتحول من خلاف على مستوى مطالب نقابية حول مسألتي التشغيل والتنمية الى صراع ارادات قد يؤدي بالبلاد الى الانزلاق نحو المجهول وربما يجعلنا نعيش كوابيس ثورة ثانية مجهولة المعالم والعواقب، فعلى كل القوى الوطنية والسياسية أن تقرأ جيدا مجريات المواجهات التي حصلت بين لجان حماية الثورة والنقابيين في ذكرى استشهاد الزعيم فرحات حشاد ونتائجها والتي ستدفع بالعديد من الكائنات السياسية إلى اليأس بما سيؤسس في نظري لمرحلة تصفية الحسابات بعيدا عن مؤسسات الدولة وخارج اطار القانون، ومن هنا تأتي الحاجة الملحة لاسقاط الوهم الذي يسيطر على تفكير البعض ويؤثر على سلوكهم السياسي بأن المشروع الديمقراطي حكر على فصيل سياسي أو ايديولوجي بعينه، فهو نقيض للدكتاتورية وبالتالي تعبير عن الكلّ الوطني وهو ملك لمن هو أقدر على تحمل استحقاقاته النضالية وهو رديف الوفاق والاتفاق على مفهوم المشروع الوطني من حيث الهدف ومن حيث إستراتيجية تحقيقه و في اتخاذ القرارات المصيرية للبلاد والعباد. التحوير الوزاري ليس هو العصا السحرية التي ستخرج البلاد من عنق الزجاجة ما لم يأخذ بعين الاعتبار الأداء السابق والأخطاء التي سقطت فيها الترويكا حين اتخذت المحاصصة السياسية كآلية في التشكيل الحكومي ما جرّ خلفه ترهّلا وظيفيا مع وصول العدد الجملي للتشكيلة الحكومية ما بين وزراء وكتاب دولة الى الأربعين، نهيك عن التعيينات والقرارات التي تم اقرارها خارج اطار التشاور والوفاق داخل الترويكا نفسها، وهو ما يستوجب دمج بعض الوزارات مع بعضها مع تشريك عدد من الخبراء في الإدارة حتى تتحقق النجاعة المطلوبة، كما أن الفترة المقبلة تتطلب من الحكومة أن تكون أكثر صرامة وحزما بخصوص فتح ملفات الفساد وايجاد آليات لمكافحته في اتجاه تنقية الأجواء السياسية والاجتماعية وامتصاص حالة الغضب والاحتقان السائدة على الساحة السياسية، ويبقى الاشكال القائم هنا والمتمثل في قدرة الحكومة على الوقوف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين بعدما تغيرت تضاريس المشهد الحزبي وتفاقم الخلاف مع التيار السلفي الذي اكتوى بنار الاعتقالات والمحاكمات في ظل حكومة الجبالي. وفي كل الأحوال فان التحديات المتراكمة أمام الدولة والشعب معا لا يجب أن تقابل بمنطق التيئييس والتحبيط وتدمير النفسيات والمعنويات فكذا حال كل الشعوب التي ارتأت لنفسها أن تكون حرة ومنعتقة، ولن تمر الأزمة حتى تلفظ هذه الأرض الطيّبة من سطحها وبطنها كل الحاقدين والكارهين والمتآمرين الذين اختاروا صناعة الموت على صناعة الحياة. 28 ديسمبر 2012