رغم وضوح اهداف الثورة وجلاء الاستحقاقات الوطنية الكبرى، والتي تزداد حدة وضغطا ، لا يزال المشهد السياسي يعرف كما هائلا من المزايدات والتجاذبات بين مختلف الفاعلين في السلطة والمعارضة . ما من شيء يطمئن اليوم الى تغليب المصلحة الوطنية العليا والانحياز الى القضايا الاساسية والعاجلة للبلاد ، وهي بالاساس اقتصادية واجتماعية، وبات من شبه الواضح اليوم ان المعطى الانتخابي يسبق كل الاهتمامات ويتصدر أجندة عمل النخب والأحزاب ويغلب على كل المواقف والبرامج والتصورات.
ولا شك في ان البلاد تنتظر استحقاقا سياسيا تاريخيا وموعدا انتخابيا حاسما في اتجاه تثبيت مؤسسات الحكم الدائمة والمستقرة ، ولكن التغاضي عن العاجل من الملفات والمسائل التي تهم المجتمع سواء في ما يتعلق بالقدرة الشرائية وتوفير مواطن العمل وتنشيط التنمية والاقتصاد وصد مظاهر العنف والاحتقان الاجتماعي والتي ما انفكت في التصاعد ، ذلك التغاضي لا يؤشر الى الهدوء والمضي في تحقيق تطلعات الناس وانتظاراتهم العميقة في ملامسة تغيير حقيقي لواقع معيشتهم وخاصة في الجهات الداخلية النائية والمحرومة.
ان المشغل الانتخابي، على أهميته، لا يجب ان يتحول الى هوس مرضي لدى السياسيين والى مخلب للانقضاض على المنافسين والخصوم والى مطية لمزيد خنق الأوضاع وتأجيجها وتهديد السلم الاجتماعي وتماسك المجتمع وضرب روح التعايش بين التونسيين والتونسيات والمس بالمكتسبات الحضارية التي راكمتها أجيال وتجارب على مر العصور على هذه الارض الطيبة.
ان ارتهان الفعل السياسي والحزبي الى المزايدات والحسابات الانتخابية السابقة لأوانها والنظرات الأيديولوجية الضيقة والعدائية لا يمكنه ان يوفر عوامل الطمأنة وشروط تحقيق ما يتطلع اليه الشعب من مطالب وحاجيات ضرورية، كما انه لن يضمن الأرضية المثلى لإنجاح مسار الانتقال الديمقراطي والوصول الى مؤسسات قوية ومنيعة تمنع العود الى مآسي الماضي وجراحه الأليمة وتبني الكرامة والعدالة والتنمية الشاملة والتعددية التي حلمت بها وناضلت من أجلها أجيال وأجيال.
ان الكف عن المزايدات السياسية وعقلنة الحسابات الانتخابية والنأي بها عن العداء الايديولوجي بما فيه من كراهية وحقد ونوايا للإقصاء والاستثناء وتغليب المصلحة العليا للوطن من قبل جميع الأطراف، هي المسلك الوحيد إلى بناء المستقبل وتأمين الطريق لمؤسسات حكم مستقرة وقادرة على الصمود في وجه كل العواصف والتطورات والتحديات الجسيمة الماثلة والمستجدة والممكنة بحكم الأوضاع الإقليمية والتحولات التي يشهدها عالمنا اليوم على اكثر من صعيد.